ثروت الخرباوى واجزاء من كتاب سر المعبد
الخميس، 25 أكتوبر، 2012
الخرباوى يكتب:عائد من جنة الإخوان (1)
الاولى
سامح فايز.. الذى رفض أن يدار بالريموت كنترول
مقدمة: ثروت الخرباوى
سامح فايز، شاب من شباب مصر، حين تراه ستدرك لماذا نجحت الثورة فى الإطاحة بمبارك، ستدرك أن هناك جيلًا لم يقبل الثوابت التى تربَّت عليها أجيال كثيرة، فقرر أن يثور على النمط الاستبدادى الذى عاش وعشش فى العقول والأفئدة، لم يخشَ هذا الجيل من شىء، لم يبكِ على مكتسبات أو مصالح، لم يفكر فى التذلّف للحاكم كى يحصل على عقد عمل أو سكن، لأنه لا يوجد من الأصل عمل أو سكن، ولأن الحرية عند هذا الجيل أثمن من الأشياء التى ظللنا نراها وكأنها الدنيا، الحرية التى لم نعرفها تاق لها هؤلاء الشباب، ومن أجل الحرية ذهب إلى الموت بإرادته، كتب شهادة وفاته ولم يقبل أن يكتب عقد زواجه فى ظل الاستبداد، ذهب للشهادة فى سبيل الحرية كما كنا نذهب إلى دور السينما، نجح هؤلاء الشباب فى ما فشلنا فيه.
ولأن سامح فايز فوق أنه مصرى كان إخوانيًّا منذ طفولته، إلا أن طبيعته الفتية الثائرة وقفت حجر عثرة أمام عسكرته وتحويله إلى «إنسان آلى» يدار بالريموت كنترول، لذلك كان يجب أن يثور على صور الاستبداد التى تحكَّمت فى الجماعة باسم الدين، كان يجب أن يثور على عسكرة الجماعة، وتحويلها إلى فرقة شبيهة بفرق الأمن المركزى، دخل سامح إلى «الإخوان» قبل أن يستقيم عوده وينضج تفكيره، وبدأت رحلة تحويله من إنسان إلى أداة إلى آلة تساوم بها الجماعة وتشهرها فى وجه خصومها وتهادن بها النظام حينًا وتهدده بها حينًا آخر، ولكن سامح قرأ قول الله سبحانه وتعالى «اقرأ» فقرأ، ومن القراءة كانت المعرفة، تلك المعرفة التى كانت وسيلة سيدنا آدم وهو يلج طريقه على الأرض، فقد علَّمه الله الأسماء كلها، والأسماء هنا كانت معرفة الشىء وطبيعته وكنهه، وفعل سامح فايز مثل جده الأكبر آدم عليه السلام، حاول أن يتعلم الأسماء كلها، فعرف الحرية، والكرامة، والإنسانية، والثورة، والوسطية، والاعتدال، والفهم، فتنوعت معارفه واطلع على ثقافات مختلفة من شتى البقاع الفكرية فكان عصيًّا على الاستخدام، عصيًّا على البرمجة المقيتة.
لم يكن سامح فايز فى رحلته الإخوانية سهلًا طيّعًا، ولكنهم كانوا يظنونه شابًا مشاغبًا مزعجًا، وكان مرد هذا الظن أنه كثير السؤال! كثير الاستفهام، وهذه أشياء تقدح فى إخوانيته، فكان أن تسلَّق سور الجماعة ونظر إلى العالم الذى كان يظنه عالم الأشباح، فإذا به عالم من لحم ودم، حياة إنسانية بكل معانيها، غاب عنها وغابت عنه، عرف وقتها أنه كان يعيش فى عالم الأشباح، فقرر أن يقفز من سور الجماعة، وولى هاربًا لا يلوى على شىء، فقط قرر أن يكون مصريًّا خالصًا، يختلط إسلامه مع مصريته فيصبح مصريًّا سائغًا لا مثيل له، وحين ترك عوالمه الأولى وانضم إلى العالم الحقيقى قرر أن يكتب تجربته، لم يقصد سامح من كتابة تجربته ذمًّا ولا تجريحًا فى الجماعة، فقد كان بينه وبينهم نسب إنسانى وصهر مشاعرى، من بين الإخوان شيخه الذى يحترمه وصديقه الذى رافقه، كانت بينهم الكلمة المقدسة لدى المصريين وهى «العيش والملح»، سامح فايز لم يترك حبه القديم لهم، فما زال يحبهم، يترنّم حينًا بصوته الجميل المطرب بأبيات الشعر: «نقل فؤادك ما استطعت من الهوى.. ما الحب إلا للحبيب الأول».
ولكن هل يمنع الحب الإنسان أن يكتب تجربته الإنسانية؟ التجارب الإنسانية هى التى ترتقى بالبشرية، وبغيرها نكون جمادًا لا يستطيع أن يحرك شيئًا، ولفقدنا الدفء والتواصل، ولما استطعنا أن نكتشف أخطاءنا، ونصحح مسارنا ومصائرنا، تجربة سامح التى وضعها فى الحلقات هى محض تجربة إنسانية يرد عليها كل ما يرد على معارف البشر من صواب وخطأ ونسيان، فمعارفنا كلها نسبية، ولا يستطيع أحدنا فردًا كان أم جماعة أن يكون مطلقًا، أو أن تكون معارفه مطلقة، لذلك كان سامح حريصًا على أن يؤكد أنه لا يهاجم ولا يجرّح، ولكنه يحكى «حدوتة مصرية» بسيطة لشاب مصرى استجاب إلى نداء الندّاهة فذهب إليها، ولكنه عاد إلينا مرة أخرى، وحين عاد، عاد ليحكى.
الحلقة الأولى
كان إخوتى من المترددين على لقاء الجماعة فى المسجد طمعًا فى جائزة الإخوان اليومية
هكذا تُجنِّد الجماعة الأطفال فى صفوفها
حضر شهر رمضان، كانت جماعة الإخوان المسلمين تقيم لقاء يوميًّا فى المسجد بعد صلاة العصر يتبارى فيه الأقران ويتسابقون. أطفال فى عمرى وأصغر أو يكبروننى بعام أو عامين. كان إخوتى من المترددين على هذا اللقاء، طمعًا فى جائزة الإخوان اليومية، غير أنهم كانوا يعجزون عن إتيانها والأيام تمر، ويقترب معها انتهاء الشهر وضياع الأمل. أخى الأكبر طلب منى أن أصاحبهم فى أحد تلك الأيام الرمضانية، كان يعلم جيدًا أننى أقدر على الإتيان بالجائزة، وكان الأمر يمثل تحديًّا بالنسبة إليه هو وأخى الأوسط، كم كانت تلك الأمور تُدخل السعادة إلى قلوب الأطفال، كنا نقنع بأقل القليل وكأننا احتوينا الدنيا بين أذرعنا. كنت لا أزال أخشى من المواجهة، من بصقة أخرى، وكنت أضيق بتلك الرعشات التى تعترينى، وهذا الخيال الحالم الذى يأخذنى من عالمى
بعد طول إلحاح ذهبت، قلت أذهب لأتخلص من هذا الإصرار، وليس من الحتمى أن أشترك فى أى مسابقة، لأجلس بعيدًا عنهم أتابعهم وهم يتبارون، غير أنى مع أول قدم وضعتها داخل المسجد شعرت بهذا الذى اخترقنى، لكن لم أجد له ترجمة حتى اللحظة. الغريب أن هذا الإحساس يخترقنى فى كل مرة أعود فيها إلى المسجد حتى اللحظة.
كانوا يجلسون فى شكل منظم ودائرى، ويتوسط الدائرة شاب فى العقد الثالث من عمره، وتعجبت كيف يتأتى لهذا الشاب أن يتحكم فى هذا العدد من الأطفال وينظمهم فى دائرة لا يخرج عنها أحد؟ هل الشاب هو من يمتلك تلك القدرة، أم أنه إحساس الإجلال الذى يُغلّف الدين، ويعطى كل ما له علاقة بالأديان قدسية تجعلنا نذعن، دون أن ندرى لماذا؟ أخذت مكانى فى الدائرة، كنت على يسار الشيخ، اعتقدتُ أن الأمر يبدأ وينتهى بمسابقة، غير أن ما حدث كان مختلفًا، بدأ الأمر بآيات من القرآن نقرؤها بشكل متتابع، كل منا يقرأ بضع آيات ثم يترك الأمر لمن بجواره ليقرأ، حتى تفْرغ الدائرة كلها من القراءة، ثم بعد ذلك أخذ يقص علينا الشاب بعض القصص عن أصحاب هذا النبى الذى ظهر بمكة، وكيف أنهم تحملوا الصعاب من أجل نبيهم ودينهم الجديد، وأنه ما من أحد منهم بخل بماله أو نفسه فى سبيل إعلاء هذا الدين. كان الشيخ يتحدث وكأنه يحادث نفسه، لا أظن أن أحدهم يعى ما يُقال، أو أن الحاضرين ما جاؤوا لأمر غير الجائزة والمسابقة، غير أنه أعجبنى ما قيل، هل لاقى الأمر صدى فى نفس يعقوب؟ هذا الذى بصق عليه أستاذه ولم يدرِ أحدهم ما أصابه من اضطهاد، ولم يكترث أحدهم إن كان ظالما أو مظلوما، هل شعر بتواصل مع هؤلاء المضطهدين قديمًا؟ نحن نشترك فى إحساس واحد، وهو أننا نواجه هؤلاء الصم البكم الذين لا يشعرون.
انتهى الشيخ الصغير من أوراده وأذكاره وقصصه وقرآنه، وقربنا على الذهاب، قلت لنفسى وأين المسابقة؟ غير أنه تابعنى بإعلان وقت المسابقة وكأنه سمع ذاك الذى دار فى مخيلتى. أطلق الشيخ السؤال، وكنت قد عاهدت نفسى أن ألتزم الصمت، لن أشترك، أو هكذا أوهمت نفسى، فلا زالت نظرة مدرس الدين وبصقته تعلقان بذاكرتى، وها هى ذى الرعشة بدأت تدب فى أطرافى، ودقات قلبى تتزايد وكأنى مقدم على قتل أحدهم. حاول أخى دفعى إلى الإجابة، إلا أنى أبيت. كنت أتابع الشيخ وهو يقلب ناظريه بين الأطفال متلمسًا من سيعطى الفرصة للإجابة، بيد أنى اعتقدتُ أننى فقط من كنت أتابعهم بشغف. كان أحدهم يجلس بجوار الشيخ يتابعنا هو الآخر، ظل صامتًا طوال الجلسة، وكأنه حضر خصيصًا لينتقى شيئًا ما. كان يقلب عينيه فينا طوال الجلسة، وبين الحين والحين كان يعلق عينيه معى قليلا. لاحظته وهو يلكز الشيخ موجهًا بصره ناحيتى، معلمًا إياه أننى صاحب الحق فى الإجابة، لاحظت تلك اللفتة السريعة التى لم يلحظها أحد سواى. أشار الشيخ إلىَّ رغم أنى لم أشارك الأطفال فى رفع يدى مثلهم طالبا الإذن بالإجابة. كان السؤال غير ذى صعوبة، فأجبت عنه، وكان ذلك إذنا بالحصول على الجائزة. أثارنى هذا التشابه فى حياة من يقصُّون قصصهم وحيواتهم، فكلنا مضطّهدون من هذا المجتمع الجاهل، وشعرتُ بالقوة وقد دبت فى أوصالى من جديد، وتركتنى الرعشة وخفت ضربات القلب، قررت حينها أن لا أتركهم، غير أنى علمت بعد ذلك أنهم هم من قرروا أن لا يتركونى.
هل وجدت فيهم القوة من بعد ضعف، أم أن استمتاعى بإحساس المضطّهد جعلنى أقرب إليهم؟ منا من يتلذذ بهذا الشعور، شعور الشهيد، البكاء، النحيب، الإحساس أنك أنت وفقط من تدرك بواطن الأمور، والباقون فى الجهل سواء، ألهذا السبب أردت أن أكون مع هذا الفصيل، أم أن الخوف من القيادة والتصدر النابع من وقع بصقة أستاذى جعلنى أعشق حياة التابع؟ جماعة وشيوخ يتصرفون فى كل أمر، وفى النهاية يشعرونك أنك من أحدثت الفارق والتغيير، غير أنك فى الحقيقة ما أحدثت شيئًا، هل أحببت نظرة الاهتمام تلك التى صدرت عن هذا الجالس بجوار الشيخ؟ ربما.
كان صاحب تلك النظرة هو المسؤول عنى لثلاث سنوات قادمة، أدركتُ أن الدائرة التى انتظمت فى المسجد تتلاشى فور أن نخرج من المسجد مع تلاشى قدسية المكان، فالمسلم فى المسجد يكون فى حال غير التى يكون فيها خارجه، ولهذا فلم يتبق سواى أنا وبضعة أطفال تم اصطفاؤنا لتستمر الدائرة خارج المسجد، كنا نجتمع فى بيت الشيخ بشكل دورى مرة كل أسبوع، وتلك ما يطلق عليها الأسرة، لا أنكركم القول، كانت أيامًا من أرقى وأطهر أيامى، روحانيات، أوارد، أذكار، صلوت وأدعية، ودمعات تتساقط من روعة هذا الإحساس الذى يختلج الصدر، وأنت منتصب القامة فى صلاة الفجر تستمع إلى تراتيل القرآن بشغف، أن تجد هذا الطبيب الذى يغسلك من أدرانك فى اليوم خمس مرات، أن تجد هذا القوى الذى تستند إليه فى المُلمات، أن تؤمن بتلك الغيبيات التى تجعلك على يقين أن فقر الدين وصعوبة العيش إن اصطحبتْ برضا النفس، فهناك خلف الحُجُب جنة ونعيم ورضا رب غير غضبان. كنا فى عالم غير العالم، وبين أناس غير الأناس، ونحيا إحساسًا اندثر فى خارج الدائرة، أو هكذا صوِّر الأمر لنا، لهذا كنت أخشى أن أطرد منها، أو حتى أنظر خارجها.
انتهيت من الصلاة وخرجت من المسجد أنتظر الشيخ وأصدقاء الأسرة أو إخوتى فى الله كما نكنَّى داخل الدائرة، فدائمًا ما يسبق التعريف بالشخص كلمة «أخوك فى الله» فلان، حتى يصبح بديلا عن أخيك فى الحقيقة، ولهذا نُسمَى أسرة، فهى الأسرة المنتقاة البديلة عن أسرة الجاهلية خارج الدائرة التى نحياها. أثناء انتظارى وجدتُ أحدهم يفترش الأرض بالكتب والأشرطة الدينية أمام المسجد، كنت أهوَى القراءة، فجذبنى منظر الكتب. أدرتُ ناظرى فى تلك العناوين المعروضة للبيع، حتى سقطتْ عيناى على كتيب صغير للأطفال بعنوان سيرة الإمام الشهيد حسن البنا. اشتريت الكتاب على الفور، وذهبت لشيخى مسرعًا إثر رؤيته لأطلعه على الكتاب الذى يحوى سيرة الإمام الأول لتلك الجماعة. اعتقدتُ خطأ أنه سيفرح بتلميذه الذى يحمل سيرة الإمام الشهيد حسن البنا، غير أنه قد حدث العكس تمامًا، غضب الشيخ وعنفنى، وطلب منى أن أعيد الكتاب وأن لا أقرأ تلك النوعية من الكتب. كان يتحدث بغلظة، وكأن بينه وبين حسن البنا عداوة مسبقة. تركتُ شيخى على اعتبار أنى ذاهب لأعيد الكتاب للبائع، إلا أننى لم أمتثل لكلماته. احتفظت بالكتاب على غير علم الشيخ، ومنذ تلك اللحظة أضحت لدىّ حياتى السرية التى تسير بالتوازى مع الدائرة التى نحيا داخلها، فأنا داخل الدائرة إنسان، وخارج الدائرة إنسان آخر، يحيا عالمه السرى الذى يضم كل الممنوعات، كنت متمردًا لا أحب الانصياع فى أحيان كثيرة، وفى نفس الوقت كنت أعشق الحالة التى تعترينى داخل الدائرة، تلك الهالة النوراية التى تسمو بنا وتجعلنا ننظر إلى العالم من أعلى. عندما قرأتُ الكتاب وأدركتُ كم كان حسن البنا المؤسس الأول للجماعة نبيلا وشهمًا، وكيف أنه مات فى سبيل أن تبقى جماعة الإخوان، دار فى نفسى هذا السؤال: لماذا غضب منى الشيخ وأنا أحمل بين يدىّ سيرة المؤسس الأول لتلك الجماعة التى تنظم دوائرنا؟ غير أن الإجابة ليست ببعيدة المنال، التربية داخل الإخوان تقوم على التدرج، بل إن الإسلام نفسه قام على التدرج فى الحدود والتكليفات والنواهى والأوامر. فى البداية تؤصل لديك عقيدة حب الله وحب الإسلام، عشق هذا الدين، ولكنه عشق ينبع داخل دائرة الإخوان وبعين الإخوان، وينشأ الطفل على حب الدين كما أحبته الجماعة، ويدين بالفضل لهؤلاء الذين انتشلوه من الضياع، وفى تلك اللحظة التى تتمازج فيها الدعوتان، دعوة الإسلام ودعوة الإخوان، حتى لا تراهما إلا دعوة واحدة تبدأ التكليفات، فتجد نفسك لا إراديًّا وأنت تدافع عن الجماعة، كأنك تدافع عن الإسلام، وعندما تدافع عن الإسلام فكأنك تدافع عن الجماعة، فلا تغضب من هذا الشباب الإخوانى الذى لا يمل أن ينفى عن نفسه تهمة تكفير الآخر؛ لأنه فعلا لا يرى فى خطابه نبرة تكفير، لأنه يظن أن خطاب الجماعة والإسلام منفصلان، علمًا بأنهما فى عقله الباطن خطاب واحد. وقد يُكفِّرك وينفى أنه كفَّرك لأنه لا يدرى ما قال ولا ماذا يقول؟ هو يردد وفقط، وبما أن القائد لا يخطئ فمن المؤكد أن الخطأ ليس فى من أطلق لفظة الكفر، إنما الخطأ فى الكفار، لأنه لا يتقبل مجرد أن تقول له أخطأت الجماعة، ذلك أن الإسلام والجماعة لا ينفصلان، فلو شعر للحظة أن الجماعة أخطأت، معنى ذلك أن الخطأ والقصور فى الدين، وهذا الاعتقاد، فى حد ذاته، يخرجه من دائرة الدين إلى عالم الكفار. أما أنا فقد خرقت هذا الناموس بمحاولتى قراءة التكليفات من خارج الدائرة، وقبل أن يحين الأوان.
مزج المفهومين -مفهوم الدين ومفهوم الجماعة- بالإضافة إلى مفهوم آخر هو مفهوم الأسرة، هو سر بقاء الجماعة حتى اللحظة، بعد كل تلك المحن التى مرت بالجماعة، بل وتبقى قوية ذات جذور تدب فى أوصال المجتمع، فالشيوعية تبقى بعد كل تلك المحن والعلمانية تبقى، غير أنها تيارات نخبوية تبقى للمثقفين وشراذم متبقية من رجالات الماضى وذرياتهم وفقط. ومصطلح الأسرة هذا لا يقل أهمية وخطورة عن مصطلح الدمج بين مفهوم الدين والجماعة. أنت تعطينى بديلا عن الأسرة، الأخوة فى الله أمر مقدس لدى الجماعة، وبمجرد أن ترغب فى الزواج تتزوج من فتاة إخوانية، فالإخوانى لا يتزوج من خارج الدائرة والإخوانية كذلك، فيصير للإخوان خطة بديلة فى حالة أن فَتَر إيمان أحدهم ولم يعد يكترث بالدين، وبذلك تضمن ولاءه طالما أنه داخل الأسرة، فلو عصى أحدهم، فمن الطبيعى أن يترك المسجد، غير أنه من غير الطبيعى أن يترك إخوته وزوجته وأسرته، فهم يصبرون عليه ويعملون على إعادته إلى حظيرتهم مرة أخرى، لذلك من العسير أن تجد منشقين عن الإخوان يمثلون عددًا، هم أفراد قد تحصيهم على صوابع اليد الواحدة، ومعظمهم يترك الجماعة، إما فى مرحلة البناء قبل أن تتمكن الجماعة وعقيدتها من عقله، وإما فى مرحلة الهِرم، ذلك أن خبراته الحياتية تعطيه بديلا عن العقل الذى ضيّعته الجماعة مع أهليته المسبقة للتفكير، فينشق عنهم. أذكر أحد من كانوا إخوتى فى الله داخل صفوف الجماعة، وكان ممن انشق معى فى آن واحد، غير أن مفهوم الانشقاق اختلف. تركى للجماعة كان فكريًّا وصراعًا مع العقل فى الأصل، أما ترك أخى هذا للجماعة فكان فى الأصل إرضاءً للنزوات والشهوة، كان انصياعًا للمعصية. انغرس هذا الشاب فى عالم الشهوة من نساء وجنس وغيره لما يقرب من السنوات الثلاث، غير أنه فى النهاية عاد، إعادة مفهوم الأسرة والإخوة فى الله، ذلك أن بيئته الاجتماعية كلها كانت إخوانا، أما أنا فكنت الإخوانى الوحيد ليس فى أسرتى وفقط، بل فى عائلتى كلها. أذكر أننى قابلتُ هذا الشاب قبل انتخابات الإعادة لرئاسة الجمهورية ولمست فيه حماسة للدفاع عن الدين ومحمد مرسى وغضب من موقفى لأننى قررتُ إبطال صوتى، وفى أثناء حديثه تذكرت تلك المرة التى حكى لى فيها عن تلك الليلة الحمراء التى أحضروا فيها المخدر والمومسات لشقة أحدهم وتناوب أصدقاؤه ممارسة الجنس معهن حتى حل دوره، وعندما وجد نفسه فى أحضان إحداهن تتماس الشفاه وترتجف الأعضاء من فرط اللذة، وبمجرد أن أضحى بين فخذيها شعر وكأن هناك حائطًا يحول بينه وبين إكمال متعته، وكأن صوتًا يناديه فخرج من مكانه مسرعًا وعاد لحظيرة الأسرة. وسألت نفسى حينها: هل أبى لأن الزنى حرام؟ غير أنى ما لبثت أن قلت لنفسى: ولكن المخدرات أيضًا حرام، والقبلات، والتلامس، والارتشاف من جسد الفتاة، كل ذلك فى مقام الزنى، وإن لم يحدث إيلاج للأعضاء، غير أن هذا الأمر لا يُسطّر فى بضعة أسطر، سأترك فصلا كاملا للحديث عن الأمر، عن الجنس والإخوان، ولا تندهشوا، فهذا صراع فى حياتى كان أشد من صراع العقل، وكان له الدور الرئيسى فى تركى لهذا الدين الجديد، دين الإخوان المسلمين.
الاولى
هل تريدون أن ألخِّص لكم الجزء الأول من كتاب «قلب الإخوان» فى كلمة أو فى بضع كلمات؟ إذن فاسمعوا خفقات قلبى وهى تقول:
فى جماعة الإخوان كانت لى أيام.. صرت أنا من الإخوان وصار الإخوان منى.. وفى الإخوان نزفتُ نفسى وللإخوان سكبتُ نفسى وفى الإخوان نسيتُ نفسى.. فتلاشيتُ كقطرة ماء تبخرت.. وحين يوم وقعت قطرة الماء من السحابة فتألمَت ومن ألمها ستنبت خضرة.. وذات يوم عرفت قطرة الماء أن الضياء ينير الطريق ولكنه أحيانا يعمى البصر
مرت سنوات وأنا فى قلب الإخوان، رأيت فيها أفكارا ترتفع وأفكارا تتهاوى، شخصيات حملت الجماعة، وشخصيات حملتها الجماعة، كان فى ظنى أن التنظيم ما هو إلا وسيلة لتوجيه طاقات الفرد الإبداعية وتنميتها، فإذا به وسيلة لتكبيل الفرد فى سلسلة بشرية طويلة أشبه ما تكون بسلسلة العبيد التى كانت تُحمل إلى أمريكا من بداية القرن السادس عشر، الفارق أن «كونتا كنتى» الشاب الإفريقى المسكين الذى كان يتم أسره من غرب إفريقيا قهرا وغصبا ليدخل فى سلسلة المستعبدين، كان لا ينفك عن التمرد على العبودية إلى أن يستنيم لها مجبرا، ولكنه يظل أبد الآبدين مستعبد الجسد طليق الروح والنَّفْس، ثم تخرج من صلبه بعد ذلك أجيال لا تعرف إلا العبودية فتظنها الحياة وحينها تكون هذه الأجيال هى أعدى أعداء الحرية، ويكون السجان هو سيدها وقُرَّة عينها، أما الذى يفتح لها الأبواب المغلَّقة لتنطلق إلى حريتها فهو العدو الذى يجب أن تقاومه.
عبودية التنظيمات الحديدية هى أشد وأنكى من عبودية «كونتا كنتى» إذ إنها عبودية الأجساد والأرواح والأنفس، هى أشبه ما تكون بقصة «فاوست»، الذى كان يبحث عن «حجر الفلاسفة» فباع برغبته روحه للشيطان، ما أقسى أن ترهن روحك لآخرين حتى ولو كانوا ملائكة، وما أروع أن تكون عبدا لله وحده، حين قرأت ترجمة الفيلسوف المصرى عبد الرحمن بدوى لقصة «فاوست» لجوتة، أدركت أن شقاء الإنسان لا يكون إلا بفعله، ولكن هل يدرك الإنسان حجم المأساة التى تنتج عن تفريطه فى حريته! لا شك أنه قد لا يدرك عمق المأساة وقت التفريط فى الحرية، ولكنه قد يعرف فداحة فعله بعد حين، وقد يظل عمره كله جاهلا ما وقع فيه، انظروا إلى هذا الشاب غض الإهاب، الذى لم يُعجم عوده بعد، والذى تدفعه عاطفته الدينية إلى الوقوف فى صف السلسلة البشرية المستعبدة منتظرا دوره فى التكبيل التنظيمى على أحرّ من الجمر وكأنه يتعبد لله حين يصبح فردا يقوده راعى البشر، ما أغبانا حين يقودنا الراعى بعصا الدين والأخلاق والشريعة، ونحن نهش له، يا لله! كم من العبوديات تُرتكب باسم الله، أصاب طاغور الحكيم حين قال «ثقيلة هى قيودى والحرية هى مناىَ ولكننى لا أستطيع أن أحبو إليها، فمن استعبدونى رفعوا لافتات الفضيلة وجعلوها حائطا بينى وبين حريتى».
سر عضو «الإخوان» الذى كـــــان عميلا لأمن الدولة
هل من الممكن أن أصف لكم مشاعرى وأبث لكم شجونى، أنا الآن أحلِّق فى السماء، كالطير يجنح نحو الأفق، أو كسهمٍ مَرَق، ولعلنى اليوم أعرف مدى سعادة الطير وهو يجوب الآفاق حرًّا، لا تظن أبدا أن الهواء هو الذى يحمل الطير حين يحلق، الحرية فقط هى التى تحمله، ما أعظم الحرية حين تداعب مشاعر من عاش مقيدا مكبلا، كانت آخر أيامى فى تنظيم الإخوان هى أسعد أيام حياتى، ويالها من أيام، كنت قد عقدت العزم على التخلص من تلك القيود الثقيلة التى أقعدتنى وعرقلتنى وحاولت تكبيل أفكارى، فالنَّفْس السوية ترفض الاستبداد حتى ولو كانت قيوده من ذهب، أو كانت جدرانه قد شُيِّدت من لافتات الفضيلة، ها هى اللحظات الأخيرة تداعب خيالى من جديد، تحث ذاكرتى على العودة إلى لحظات الخروج، تلك اللحظات التى اعتبرتها أزمنة قدسية، زمن الحصول على صكّ الحرية هو الأعظم فى تاريخى، قبلها نشبت معركة طاحنة بين قلبى وعقلى، هل أترك الجماعة، أم أظل فيها حتى ولو تحكَّم فيها الاستبداد؟فتحتُ حوارات مع أصدقائى عن قيمة الحرية، قلت لعاطف عواد الذى ترك الجماعة قبلى: عظيمة هى قصة «وداعا شاوشنك» تلك القصة الرائعة التى كتبها ستيفن كينج، ثم تحوَّلَتْ إلى فيلم سينمائى بطولة تيم روبنز ومورجان فريمان، دخل روبنز سجن شاوشنك ولكنه ظل عشرين عاما يبحث عن حريته إلى أن حصل عليها فى الوقت الذى أصبح فيه هذا السجن هو كل الدنيا لمساجين آخرين، لا يعرفون غيره ولا يتقبلون سواه كأنه هو الحياة، أظن جماعة الإخوان تحولت إلى سجن بشرى لا يحفل كثيرا بقيمة الحرية، يستحقون الرثاء من عاشوا فى الظلام وينزعجون من النور، من يقبعون فى أقبيتهم وسراديبهم الضيقة وهم يحسبون أن الطريق إلى الدين والفضيلة لا يكون إلا من خلال الأقبية والسراديب المغلقة.
قال عاطف «الذى أصبح فى ما بعد عضوا بالهيئة العليا لحزب الوسط»: كأنك تستعيد يا صديقى قول لامارتين «أى قيمة للفضيلة إذا لم توجد حرية؟!».
قلت له: لامارتين! لو سمعوك لقالوا إنك صبأت وأصبحت من الليبراليين أو العلمانيين وساء أولئك رفيقا، ثم استطردت وأنا أغالط نفسى: ولكن هل يطاوعنى قلبى على أن أترك جماعة أحببتها.. أتركها والفساد يعشش فى رأسها ويضرب بجذوره فى أطنابها.. لك أن تعرف أن عديدا من الإخوان النبهاء من أصحاب العقول النيرة والقلوب المضيئة يجاهدون داخل الجماعة حتى لا تصبح خاوية على عروشها بلا مصلحين… فلماذا أتركهم وحدهم؟ أكون حينئذ قد تخليت عنهم.
قال وقد نفد صبره: يا سيدى.. الإصلاحيون لا يستطيعون التنفس داخل جماعة «كتم النفس» هذه.. عبد المنعم أبو الفتوح يظن أنه يستطيع الإصلاح ويحاول أن يجمع معه جيل الوسطيين مثل إبراهيم الزعفرانى وآخرين، لكنهم جميعهم يعيشون على وهم لن يتحقق، إن الفريق الذى سرق الجماعة يقوم بدوره بنجاح ملحوظ وهم يسحبون حاليا كل الملفات التى كان أبو الفتوح مسؤولا عنها، أصبح عبد المنعم الآن يجلس فى الجماعة بلا عمل، وأظن أنه سيستيقظ ذات يوم من حلم الإصلاح هذا على قطار الإخوان وقد ابتعد عنه وتركه وحيدا بلا جماعة.
تأملت قوله وانتابتنى لحظة صمت وسرعان ما قطعتها قائلا: أصدقك القول، لقد كنت أشعر منذ آماد طويلة أن هذه الجماعة سجن وقيود وأنا السجين الذى لا يستطيع أن يحبو إلى حريته.. ثقيلة هى قيودى.. ندت عنى ابتسامة ساخرة وأنا أقول: أخشى أن أكون قد أدمنت السجن والسجان.
الآن وبعد سنوات عديدة من يوم الخروج من الجماعة أجلس فى غرفة مكتبى وحيدا أخطّ هذه الذكريات، أذكر آخر لقاء جمعنى بالمستشار مأمون الهضيبى، كان ذلك فى غضون عام 2002 صدمنى الرجل بكلماته الجافة الخشنة، أهكذا يكون الدعاة! كان اللقاء قد دفعنى إليه الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح من أجل تخفيف حدة الهجوم ضدى داخل الجماعة، كان من المفترض وفقا لما وقَرَ فى يقينى أن لقائى المستشار مأمون الهضيبى سيكون ثريًّا له قيمته، فالرجل يحمل فوق كتفيه تاريخا ويختزن فى مكنون ذاته كمًّا متنوعًا من المعارف القانونية والخبرات السياسية والتنظيمية، إلا أننى تذكرت عند لقائى الأخير معه ذلك المثل العربى الذى يقول «أن تسمع بالمعيدى خير من أن تراه». ويبدو أن معارف الإنسان وخبراته قد تكون عبئا عليه أو يكون هو عبئا عليها إن لم تكن له بصيرة وسِعة أفق، كذلك الجواهرى الذى وهبه الله ذهبا وجواهر نفيسة فقذفها فى اليم إلى غير رجعة!
كان عديد من اللقاءات الإخوانية التنظيمية قد جمعنى بالمستشار الهضيبى سابقا إلا أنه فى الغالب الأعم كان قليل الكلام يميل إلى الاستماع ولا يعقّب إلا بكلمات قليلات… وكان معظم الحوارات التى جمعتنا تدور فى مجملها حول شؤون تنظيمية وحركية لا علاقة لها بالفكر كما لم تكن لها علاقة بالإنسانيات والمشاعر، لذلك لم تتح لى الفرصة كى أختبر عن كثب بصيرة هذا الرجل وقلبه، إلا أنه ظهر لى من خلال خبرتى فى التعامل معه كما ظهر لآخرين أنه يتسم بضيق الصدر وسرعة نفاد الصبر.
كان لقائى إياه هو خاتمة قصتى مع الجماعة، حين تكلم ظهرت على قَسَمَات وجهى مخايل الدهشة حتى إننى كدت أهزّ رأسى لأعيد عقلى إلى مكانه المعهود، هممت بالوقوف للانصراف، فدفقات الكلام الذى خرج من فمه توحى بأنه كان يعيش فى مرحلة ذهنية متأخرة.
أشار إلىّ بيده يأمرنى بالجلوس وهو يقول: اقعد.. اقعد.. هل تظن أن «دخول الحمام كما الخروج منه؟!».
جلست وأنا أقول فى نفسى بعد أن غالبت ابتسامة طفت على سطح وجهى «ما دام الرجل يعتبر بيته حمَّامًا فكان من المفروض أن أدخل بقدمى اليسرى وأقول وأنا داخل: اللهم إنى أعوذ بك من الخبث والخبائث».
ودون تمهيد بادرنى بلهجة يشوبها الاستعلاء وكأنه رئيس مجلس إدارة شركة يخاطب أحد الموظفين عنده: أنت أخطأت فى حق الجماعة يا ثروت.. ويبدو أنك لم تعرف ما قاله حسن البنا.. قال «نحن جماعة انتظمنا فى صف واحد فإذا خرج منا واحد لن يقول الناس خرج واحد ولكن سيقولون صف أعوج»، تركته يسترسل فى حديثه إلى أن قال: نحن نتحالف مع من يستطيع أن يقرِّبنا من دوائر صنع القرار.. نحن تحالفنا فى «الأطباء» مع حمدى السيد ومع حسب الله الكفراوى فى «المهندسين» لهذا السبب.. وأى شخص قريب من دوائر السلطة العليا سنتحالف معه ولن نقبل أن يخرج أى واحد منا عن هذا القانون.. هذا هو دستور الجماعة.. دستور الجماعة.. وأنت رجل قانون.
انتظرت إلى أن استكمل كلامه ثم قلت: قانون التحالف مع من يكون قريبا من السلطة أظن أنه من الممكن أن يكون وسيلة مرحلية وليس دستورا دائما.
ظهر الضيق على وجهه ثم قال بنفاد صبر: لا تجادلنى، أنت رجل قانون، لماذا وضعتْ الدولة قانونا للمرور؟ طبعا حتى لا تتصادم السيارات، ماذا لو خالفت سيارة قانون الدولة وقطعت الإشارة الحمراء؟ قطعًا ستقع حوادث وستصطدم السيارات بالمارة، ماذا لو أقام أحدهم بناية دون ترخيص من الحىّ وفقا للقانون؟ سيصبح الحال فوضى… هناك قانون للعقوبات، مَن يخالفه يكون قد ارتكب جريمة، أليس كذلك؟
تنفست الصعداء وأنا أقول: لا ليس كذلك.
- ماذا تقصد؟ قالها مقاطعا وهو يبدى استغرابه.
أكملت كلامى وأنا أتناول كتابا كان على المنضدة وكأنه لم يقاطعنى: هناك مواد فى القانون تتم محاكمة الإخوان بموجبها مثل المادة 86 من المدونة العقابية.. وبالمناسبة الإخوان يخالفون هذه المادة ويرتكبون بمخالفتهم هذه جريمة إنشاء تنظيم دون أن يكون لهذا التنظيم رخصة من الجهات الرسمية.. فإذا كان قانون الجماعة فى رأيك يجب أن يتم احترامه كما نحترم قانون المرور وقانون العقوبات فحينئذ يجب أن نعلن عن حل الجماعة لأنها تخالف قوانين الدولة، لأنها نشأت دون رخصة كما البنايات التى تنشأ من غير رخصة، وإلا لأدت هذه المخالفة إلى اصطدام السيارات ووقوع الحوادث وإشاعة حالة فوضى.. أليس كذلك؟
هبَّ الرجل واقفا وهو يقول بعصبية وحِدّة وهو يشير إلى الباب: اتفضل يا أستاذ المقابلة انتهت.
تجمع فى ذهنى فى تلك اللحظة كل العمر الذى قضيته فى الجماعة وكل ما مر بى من أحداث، مرّ شريط الذكريات كأنه دهر ولكنه مرّ فى جزء من الثانية، رأيت أمام عين خيالى تلك المشاهد الرائعة التى شاركت فيها أو اقتربت منها أو تفاعلت معها، رأيت أشخاصا أفذاذا فى الفقه والفهم وسِعة الأفق، رأيت عقولا موسوعية وقلوبا نورانية، والآن واحسرتاه أرى جماعة بلا قلب.. هذا هو قلب الإخوان!! فى مكانه فراغ!! فقد تبخر القلب وتناثر خلف من ماتوا ومع من خرجوا.. اندثر القلب وضاع مِن يد مَن قَلَبَ الإخوان إلى ناحية أخرى.. الآن آن لى أن أختار.. آن لى أن أحسم أمرى.. أحببت جماعة الإخوان ووهبتها قلبى ومشاعرى وعقلى، فضّلتها على نفسى وبيتى وأولادى، لم أكن أحبها لذاتها كذلك المحب الولِه العاشق الذى يتدله حبا فى محبوبته لذاتها، ولكننى أحببتها لما ترمى إليه، لأنها دعوة وحكمة ووسطية وفهم واعتدال.. والآن تبدل الحال فلِمَ أبقى؟ لِمَ أظل أسيرا فى حبائل تلك الجماعة التى فقدت قلبها؟ لِمَ أرضى بالأسر والحبس فى أسوار عالية تمنع الرؤية وتحجب الرؤيا.. فلا خيال ولا إبداع؟ أأظل رهينة فى محبسهم مكبلا بأغلالهم وأنا من تاقت نفسه إلى سماء بلا قيود وأرض بلا حدود كطائر الباتروس الذى يقضى حياته محلِّقا فوق مياه البحار والمحيطات..؟ طِرْ أيها الطائر.. غادرهم.. اذهب إلى سمائك.. واحذر من أولئك الذى سيقولون لك إنك ستطير فى سماء ملبدة وتسير فى أرض مظلمة، فالنور فى قلبى وبين جوانحى، فعلام أخشى السير فى الظلماء؟ علامَ أخشى الطيران فى العتماء؟ كُنْ كالنسر فوق القمة الشمَّاء ولا تكن كدودة الأرض فى جحر كئيب وجُبٍّ سحيق.. لك نظر ولك بصيرة، فأين انتفاعك بنظرك ونظرتك؟ لله در المتنبى حين قال: وما انتفاع أخى الدنيا بناظره/ إذا استوت عنده الأنوار والظُّلَم.. قُم الآن وأمعِن النظر ويجب إذا نظرت أن تحسن الخروج كما أحسنت الدخول.
قمت متثاقلا ثم قلت بهدوء وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى: المقابلة انتهت قبل أن تبدأ.. الآن آن لى أن أختار الصواب.. أنا الآن لست معكم فى الإخوان.
كان الفرار من ضيق التنظيم فرصتى للحرية، إلا أننى رأيت وأنا خارج قلب الإخوان أشياء تحير منها الألباب وتستعصى على التصديق.
▪ ▪ ▪
تقول الأسطورة اليونانية إن إيكاروس كان يعيش مع أبيه فى جزيرة كريت، أحب إيكاروس الطيران، فصنع لنفسه أجنحة أخذها من الطيور، ولصقها فى يديه بالشمع، ثم تهيأ للطيران، وقبل أن يطير نصحه أبوه: لا ترتفع كثيرا يا إيكاروس، لا تفكر فى الوصول للشمس، فإنك إن وصلت إليها فقدت حياتك، ولكن إيكاروس كان طموحا للمعرفة فلم يستمع إلى نصيحة أبيه وطار وطار وطار محلقًا فى الأجواء حتى اقترب من الشمس، اقترب من الحقيقة التى كان تواقا إليها، ولكن أشعة الشمس القوية الحارقة أذابت الشمع وحرقت الأجنحة فوقع إيكاروس ميِّتًا قبل أن يصل إلى مبتغاه.
فهل كنت كإيكاروس عندما حاولت أن أصل للحقيقة فى جماعة الإخوان، وهل سأنال ما ناله؟ كانت رحلتى نحو الحقيقة قد بدأت مصادفة، إذ لم يرد فى خاطرى أن جماعة الإخوان تضمر فى نفسها حقائق مفزعة لا يعرفها معظم الإخوان، فالأسرار محفوظة عند الكهنة الكبار، فى صندوق خفىّ لا يستطيع أحد أن يطّلع على ما فيه، إذ إن العتمة التى يعيشها أفراد الجماعة تحجب عنهم نور الحقيقة، وحين سرتُ وراء بصيص الضوء أرانى الله ما يعجز العقل عن استيعابه لأول وهلة، فمن عاش فى العتمة زمنا يفاجئه النور فيعشى بصره للحظات ويصعب على حدقتيه استيعاب الضياء.
كان من قدر الله أن تم القبض على بعض إخوة لى من الإخوان عام 1999 فى القضية التى عُرفت بقضية النقابيين، كان هؤلاء الإخوة يحضرون اجتماعا خاصا بقسم المهنيين بالجماعة فى مقر إحدى الجمعيات التابعة لنقابة المهندسين فى منطقة المعادى، وعندما تم القبض عليهم كان رد فعل الجماعة على المستوى الإعلامى والسياسى رديئا بطيئا، وحين وجدت أن الجماعة لم تُلقِ بالًا لهذه القضية، أخذت أبحث عن سر هذا التهاون، فالمستغرَب أن بعض المقبوض عليهم كانوا من كبار قيادات الجماعة، فمنهم الدكتور محمد بديع عضو مكتب الإرشاد وقتها ومرشد الإخوان فى ما بعد، ومنهم أيضا الدكتور محمد بشر عضو مكتب الإرشاد، والأستاذ مختار نوح مسؤول قسم المحامين بالجماعة وغيرهم، إلا أننى لم أصل فى الأشهر للأولى للقضية إلى شىء، فقد شغلتنى الأحداث عن تتبع «حقيقة الإعراض».
حينما وجدت أن الإخوان صنعوا لأنفسهم أُذنًا من طين وأُذنًا من عجين بخصوص قضية النقابيين، أخذت أدفع قسم المحامين إلى القيام بدور فاعل ومؤثر، وكان الدكتور محمد بديع وإخوانه فى السجن يرسلون إلىّ رسائل شبه يومية يطلبون منى فيها أن أتحرك مع المحامين على المستوى السياسى والقانونى بعيدا عن أقسام الجماعة الرسمية التى رأوا أنها خذلتهم، كانت رسائلهم لى تقطر أسى وحزنا من إخوانهم فى الله الذين تركوهم بلا اهتمام، حتى إن مكتب الإرشاد عندما قرر تخصيص مرتب شهرى لأسر الإخوة المحبوسين، أغدق على البعض وحرم البعض الآخر! كان شهر أكتوبر من عام 1999 هو الشهر الذى تم القبض فيه على الإخوان فى هذه القضية، وكأن شهر الخريف هو الشهر الذى أسفر عن بصيص الضوء الذى تتبعته لأصل إلى صندوق الأسرار، وفى منتصف شهر نوفمبر من نفس العام صدر قرار رئيس الجمهورية بإحالتهم إلى المحكمة العسكرية، وكان قرار الإحالة هذا على غير ما أنبأنا به الوسطاء! لذلك كان وقعه على نفسى مؤلما جارحا، وبعد يوم من قرار الإحالة إلى المحكمة العسكرية عقدنا فى قسم المحامين بالجماعة اجتماعا فى مكتب الأخ بهاء عبد الرحمن المحامى عضو مجلس نقابة المحامين.
كان بهاء من الإخوة الذين كان من المقدر لهم أن يحضروا الاجتماع الذى تم القبض فيه على الدكتور بديع وإخوانه إلا أنه تأخر فى الوصول إلى المكان وكان من حسن طالعه أن ذهب فى أثناء القبض على الإخوة فرأى قوات الشرطة المدججة بالسلاح تطوّق الشارع ففر هاربا بنفسه وترك سيارته، وذهب إلى مترو الأنفاق وكاد يقبض عليه أحد المخبرين إلا أن الله سلَّم.
مكتب بهاء عبد الرحمن يقع فى منطقة عابدين وهو مكتب متسع الحجرات والردهات، بدأت وفود الإخوة تهل على المكان حتى اكتمل الجمع فى الساعة العاشرة صباحا، وحين بدأت وقائع اجتماعنا تحدث الأستاذ محمد طوسون عضو الجماعة، وقال إن الدكتور محمد بديع المحبوس فى القضية طلب منه تشكيل لجنة إخوانية تكون مهمتها إدارة معركة هذه القضية من الناحيتين السياسية والقانونية، واقترح الأستاذ طوسون أن يكون اسم هذه اللجنة هو «لجنة إدارة الأزمة» وأن تكون بالانتخاب وفقا للائحة قسم المحامين، أخذ كل واحد من الإخوة يدلى برأيه فى الاقتراح، وتحدث كل ممثلى المحافظات، كان كلام الجميع حماسيا إلا أنه تلاحظ لى أن كلام المشاعر كان خطابيا بليدا كأنه من تماثيل الشمع التى تشبه الحقيقة ولكنها ليست هى، نظرت إلى الإخوان الذين يتحدثون وكأننى أجلس فى متحف «مدام تيسو» للشمع فى لندن! تخيلت أننى أقترب من حماسهم المتدفق لألمسه وأتبين حقيقته فإذا بى أكتشف أنه بلا حياة، مزيفون، كلهم مزيفون، إلا هو، شعرت بصدقه وحرقة قلبه، أحمد ربيع غزالى… كان أحمد ربيع يتولى مسؤولية قسم الأشبال بجماعة الإخوان فى محافظة الجيزة، وكان عضوا بمجلس شورى الجماعة وأمينا لصندوق نقابة المحامين بالجيزة، كان هو أعلى الموجودين فى رتبته الإخوانية، وشعرت أنه أعلاهم فى رتبته الإنسانية، والحق أننى لم أكن من أصدقاء أحمد ربيع المقربين، ولذلك لم أكن أراه كثيرا قبل وقائع هذه القضية، ولكننى كنت أشعر بنفسى تهفو إليه دونما سبب ظاهر، ولكأنما كانت جرأته فى الحق هى سبب انشداهى له، ولربما كان صدقه هو الرابطة التى أوصلته لفؤادى، وأشهد أننى لم أكن أراه من قبل إلا من خلال ضوء ضعيف، هو ضوء «الروابط الإخوانية» وهو أخفت من ضوء الشمعة، وضوء الشمعة لا يكفى لكى تكتشف الجمال الإنسانى فى من تحبهم.
وعلى آخر النهار تمت انتخابات «لجنة إدارة الأزمة» وانتخابات الإخوان لها طبيعة خاصة، فلا يجوز فيها أن يتقدم أحد للترشيح، ولكن الكل ينتخب، والكل مرشح، وأسفرت الانتخابات عن فوزى برئاسة لجنة الأزمة «بالإجماع» ما عدا صوتى أنا فقد ذهب لأحمد ربيع، ونجح فى عضوية اللجنة تسعة أعضاء كان منهم أحمد ربيع وبهاء عبد الرحمن، وجمال حنفى عضو مجلس الشعب فى ما بعد، وبعض أفراد آخرين، وأخذت اللجنة بعد ذلك دورها فى إدارة الأزمة، ويبدو أن هذه اللجنة كانت مصدر قلق للجماعة، وكان الذى أثار اندهاشى أن الأستاذ محمد طوسون عندما رأى السرعة التى نسير بها لنصرة إخواننا كان يقول لى ولأحمد ربيع مستنكرا وقد اشتد به الحنق: لماذا هذا الحماس؟! هذه ليست أول قضية يتم حبس الإخوان فيها، خفِّفا عنكما فقد يكون حبسهم فيه مصلحة للجماعة!
لماذا أكتب هذه الذكريات؟ يلومنى البعض عليها ويقولون إنك بها تفتّ عضد الجماعة التى تربيت فيها، ولكنهم لا يعلمون أن الحكايات التى نكبتها ولا نكتبها تصبح غنيمة لأعدائنا، لا يعلمون أننا لا نرتفع إلا إذا تعلمنا من تجاريب الحياة، ومن يقص علينا تلك التجاريب أبد الدهر لا أبا لك يرفعنا وينفعنا.
فى إحدى الجلسات الهامة بالمحكمة العسكرية التى انعقدت لمحاكمة النقابيين الإخوان تذكرت واقعة خطيرة كانت قد حدثت عام 1995، كان النظام قد قبض على عدد كبير من الإخوان ما بين عامى 1995 و1996، وكان المقبوض عليهم من أعلى قيادات الجماعة، فمنهم عصام العريان وخيرت الشاطر وعبد المنعم أبو الفتوح وعبد الحميد الغزالى ولاشين أبو شنب وجمعة أمين ورشاد البيومى ومحمد حبيب ومحمود عزت ومهدى عاكف وإبراهيم الزعفرانى وسعد الحسينى وحسن الجمل والسيد النزيلى ومحسن راضى ومحيى الزايط وحلمى الجزار وأبو العلا ماضى وآخرون ،وأخذت هذه القضايا أرقام 8 و11 لسنة 1995 و5 لسنة 1996، وكان الدكتور محمد سليم العوا هو رئيس هيئة الدفاع ومعه مختار نوح الذى كان منسقا لهيئة الدفاع، وقتها قام الإخوان باستقدام عدد من المحامين الإنجليز لحضور جلسات المحاكمات بصفتهم مراقبين، وكان من حظى أن كنت مكلفا من الإخوان مع بعض المحامين الإخوان بمرافقة هذا الوفد، كان الدكتور العوا هو الشخص الوحيد الذى كان مؤهلا للتعامل مع هذا الفريق، أما نحن فقد كنا مجرد رفقاء طريق، فالدكتور العوا لديه كل تفصيلات القضايا حسب موقعه فى رئاسة فريق الدفاع كما أنه يجيد الإنجليزية إجادته للعربية، وفى هذه الفترة عرفت من خلال أحد الإخوة المقربين من الدكتور العوا أنه أى الدكتور العوا تدخّل سياسيًّا للصلح بين جماعة الإخوان والنظام، كان هدف الدكتور العوا من الوساطة للصلح أن يتيح للحركة الإسلامية مساحة كبيرة فى الحركة الدعوية، فالدعوة هى الوسيلة الإنسانية الرفيعة التى من شأنها الارتقاء بمفاهيم وقيم الناس، وترشيد سلوكياتهم، وبالدعوة تقوم الحضارات، فما من حضارة إلا ولها دعوة ودعاة.
طلب الدكتور العوا مقابلة اللواء عمر سليمان مدير المخابرات فحدد له الأخير موعدا، وفى الاجتماع عرض العوا الوساطة فى الصلح، فوافق عمر سليمان إلا أنه اشترط عدة شروط، منها أن يمتنع الإخوان عن خوض أى انتخابات نقابية أو برلمانية لمدة خمس سنوات، على أن يتيح لهم النظام مساحة حركة من خلال المساجد، فإذا وافق الإخوان على هذا الشرط يتم الإفراج عن كل المحبوسين الإخوان، كان هذا العرض مرضيا للدكتور العوا، ظن وقتها أن قيادات الإخوان ستوافق على هذا العرض وسترحب به أيما ترحيب، فهى فرصة نادرة لا تتكرر، وقبل أن يغادر العوا مكتب عمر سليمان قال له هذا الأخير: على فكرة يا دكتور.. الإخوان لن يوافقوا على هذا العرض، مأمون الهضيبى سيرفض بشدة… ويبدو أن الدكتور العوا أصابته حالة من الاندهاش عندما جاء له رد المستشار الهضيبى قاطعا برفض العرض!! كيف يرفض الهضيبى اتفاقا كهذا، ومن أنّى لعمر سليمان أن يعرف الرفض مسبقا!! إلا إذا كان صندوق الأسرار لا يزال يرفض البوح بأسراره.
جرت هذه الذكريات فى خاطرى وأنا فى المحكمة العسكرية أنتظر مع باقى المحامين مشاهدة شريط الفيديو الذى سجلته مباحث أمن الدولة للمتهمين لحظة القبض عليهم فى الاجتماع الذى عقدوه بالمعادى، انعقدت الجلسة برئاسة اللواء أحمد الأنور، وبعد الإجراءات القانونية الأولى تم استدعاء شاهد الإثبات الأول الذى كان ضابطا بمباحث أمن الدولة ومسؤول قسم الإخوان بالجهاز وكان اسمه الحركى عاطف الحسينى، وكان من المعروف عن عاطف الحسينى أنه يعرف كل كبيرة وصغيرة فى الإخوان ويحفظ وجوه أفرادهم فردا فردا، قام عاطف الحسينى بتشغيل شريط الفيديو وبدأت الصورة تظهر على شاشة التليفزيون، كانت الصور التى تتابعت هى صور بعض الإخوان وهم يدخلون إلى مقر الاجتماع، وطلبت المحكمة من الشاهد عاطف الحسينى أن يوقف الشريط عند كل فرد دخل إلى المكان ثم يقوم بالتعريف بهذا الشخص، وكانت المحكمة تستدعى كل متهم تعرَّف عليه الشاهد فى الشريط لتقوم بمناظرته، وظهر أن الشاهد يعرف الجميع.
هل تعرفون قصة المرشد السرى، ليس قصدى هنا مرشد جماعة الإخوان السرى، فقد تحدثت عنه بما فيه الكفاية فى الجزء الأول من كتابى، وأظن أن الحديث عنه أثار حالة من الجدل التاريخية، إثباتا أو نفيا، ولكن المرشد السرى هنا هو ذلك الأخ الإخوانى الذى قام بإبلاغ مباحث أمن الدولة عن هذا اللقاء، نعم فجهاز أمن الدولة وفقا لما قاله الدكتور محمد حبيب فى أكثر من لقاء استطاع اختراق الجماعة من أعلاها إلى أدناها، وكانت الشكوك قد حامت حول بعض الإخوة الذين تخلفوا فجأة عن حضور هذا الاجتماع الهام، فلربما قام أحدهم بالإبلاغ عن هذا اللقاء، أخذت الاتهامات تصيب الكثير من أفراد الجماعة من الذين كانوا يعرفون خبر هذا اللقاء، وكانت هذه الاتهامات والشبهات تزعزع الثقة فى كثير من الإخوة كما أنها كانت تصيب هؤلاء الإخوة بحالة من الغضب والإحباط، فما أقسى الاتهامات التى لا تكون بلا سند أو دليل.
إلا أن الشاهد عاطف الحسينى فى شهادته أمام المحكمة قال إنه اتفق مع مرشده السرى الإخوانى على حضور الاجتماع وجهزه بالتسجيلات اللازمة لتسجيل كل شاردة وواردة فى اللقاء، وكنا فى جلسة سابقة قد سمعنا التسجيلات، وبقى أن نعرف من هو المرشد السرى؟!
الدكتور عمرو عبد الإله البلبيسى، هو أحد الإخوان الفاعلين فى قسم النقابيين بالإخوان، وعندما بدأ المهندس أبو العلا ماضى فى تشكيل حزب الوسط أواخر عام 1995 انضم عمرو إلى الحزب، وبعد أن احتدمت الخلافات بين أبو العلا والإخوان طلب المستشار الهضيبى من كل الإخوان الذين كانوا قد حرروا توكيلات لوكيل المؤسسين أبو العلا ماضى أن يقوموا بإلغائها، فقام عمرو البلبيسى بإلغاء التوكيل فورا، لم يكن البلبيسى وحده هو من فعل ذلك ولكن كان معه فى ذلك صلاح عبد المقصود وجمال حشمت وغيرهم، الكل انساق خلف مأمون الهضيبى الذى كان يسوق الجماعة فتنساق له، وفى لقاء جمع أبو العلا ماضى بعمرو البلبيسى، بكى البلبيسى أسفًا على إلغاء التوكيل وقال: لم يكن لى حيلة فى ذلك، فرد عليه أبو العلا ردا قاسيا: يبدو يا دكتور عمرو أن قادة الجماعة قامت بعملية «إخصاء» لأفراد الجماعة الأمر الذى ترتب عليه فقدكم لرجولتكم!
كان الدكتور عمرو البلبيسى قد حضر لقاء النقابيين وانصرف منه قبل القبض على الإخوة بعشر دقائق، وكنا نعرف هذا الأمر، كان العجب يلفنا، لماذا لم يتم القبض على البلبيسى رغم أنه كان من الحاضرين، بل إن أحد من حضروا اللقاء كان قد انصرف هو الآخر إلا أن ضباط أمن الدولة قبضوا عليه قبل أن يركب مترو الأنفاق، وتم تقديمه فى القضية مع باقى المتهمين، بل إن الدكتور محمد بشر عضو مكتب الإرشاد لم يحضر اللقاء من الأصل ومع ذلك تم القبض عليه! فلماذا تم استثناء عمرو البلبيسى؟! كانت هذه الأفكار تباغتنى وأنا أشاهد شريط الفيديو مع باقى المحامين بجلسة المحكمة العسكرية، وكان عاطف الحسينى لا يزال يتوقف عند صورة كل متهم ليقوم بتعريفه، وفجأة ظهر على الشاشة صورة عمرو البلبيسى وهو يدخل المكان، ثم ظهرت بعد ذلك صورته وهو يغادر المكان قبل القبض على المتهمين بدقائق، طلب اللواء أحمد الأنور رئيس المحكمة، إيقاف الشريط عند صورة عمرو البلبيسى وقال للشاهد عاطف الحسينى: مَن هذا؟ هل تعرفه؟ هل هو من المتهمين؟ وهنا نظرتُ إلى وجه الشاهد الحسينى لأقرأه ثم نظرت إلى وجوه بعض المحامين من الإخوان لأترقب رد فعلهم، وجاءت إجابة عاطف الحسينى من أغرب ما يمكن.
ننشر الحلقة الثانية السبت القادم
الثانية
اجتماع مجلس الشورى العام للإخوان
تُلحّ علىَّ أحيانا الرغبة فى الصمت.. اصمت، اكسر قلمك، إنك لن تصلِح الكون أبدا، سيجهل قومك مقصدك، سيمزقون صورتك، سيتهمونك فى وطنيتك أحيانا وفى عقيدتك أحيانا أخرى، كن كباقى أصحابك، امسك العصا من المنتصف، حاول أن ترضى الجميع، ما الذى ستربحه من كشف الحقيقة؟! هل تظن أن الحياة مثل الحدوتة التى نقصّها على الصغار؟! فى الحدوتة يدور الصراع بين الخير والشر، بين الحق والباطل، وفى النهاية ينتصر الخير وتعلو راية الحق، ولكن الدنيا غير ذلك، الخير لا ينتصر دائما وراية الباطل تعلو كثيرا، ولكن يهزنى «فعل أمر» يصدر من أعماقى، هو «اكتب، اكتب» الكتابة تسبق القراءة، ولولاها ما قال الله لنا «اقرأ»، يبدأ الإنسان طريق المعرفة بقراءة الكتب ثم يرتقى فيقرأ الناس ثم يرتقى فيقرأ الحياة ثم يرتقى فيقرأ الموت ، ولكى نقرأ يجب أن نكتب.
عدد من أعضاء الإخوان كانوا ضباط مباحث ويقدمون للجماعة خدمات كثيرة
بديع حثَّ قيادات الجماعة خلال وجوده فى السجن على الثناء على مبارك ليثبت للجميع أن «الإخوان» لا تعارض من أجل المعارضة
القاعة الكبرى فى المحكمة العسكرية بالهايكستب هى فى الأصل قاعة مسرح، كنا نعيش فى أجوائها وكأننا بالفعل على مسرح تجريبى، نشاهد مسرحية عبثية، يشترك فيها الممثلون والجمهور، يؤدى بعضهم دوره ارتجاليا، ويؤدى البعض الآخر دوره المرسوم له من المؤلف العبقرى الذى كاد ينافس شكسبير فى حبكاته الدرامية، تقع منصة القضاة على خشبة المسرح، وأمامهم ميكروفونات ليصل صوتهم بوضوح إلى كل الجمهور، يقف المحامون والشهود خلف منصة خاصة بهم أسفل خشبة المسرح، أمامهم هم أيضا ميكروفونات، قفص المحكمة كئيب متشابك الأسلاك بحيث يصعب عليك أن تتبين بوضوح وجوه الأشخاص الذين يقبعون خلفه، أما القاعة فتتسع لنحو ثلاثمئة شخص، وبجوار منصة المحامين منضدة مرتفعة وضعوا عليها جهاز تليفزيون كبيرا وجهاز فيديو، وبجوارهما يقف ضابط أمن الدولة عاطف الحسينى، كان العرض المسرحى الذى نشاهده ونشترك فيه هو تسجيل فيديو لمدخل عمارة، الصورة أمامنا جامدة ولكنها كانت تتحرك كل فترة بدخول أحدهم العمارة.
حين دخل الدكتور عمرو البلبيسى لم ينبس الضابط عاطف الحسينى ببنت شفه، تفحصت وجهه لحظتئذٍ فوجدته جامدا لا يشى بما بداخله، وفى نهايات عرض الشريط خرج عمرو البلبيسى من العمارة فلم يحرك عاطف الحسينى ساكنا أو يوقف شريطا، قطع صوت اللواء أحمد الأنور صمت القاعة قائلا: لم تُجب عن سؤالى يا عاطف بك، من هذا؟
رد عاطف الحسينى قائلا: لا أعرفه! فى الغالب هو أحد سكان العمارة ولا علاقة له بتنظيم الإخوان.
كنت أقف بجوار عاطف الحسينى حينما قام بإغلاق شريط الفيديو وصوت الحاجب يخترق آذاننا قائلا: محكمة، معلنا رفع الجلسة، رَبَتَ أحد المحامين على كتفى قائلا: الدكتور بديع يريد أن يتكلم معك.
ذهبت إلى القفص فوجدت عاطف عواد يتحدث مع الدكتور بديع ومختار نوح من خارج القفص، وقفت بجوار عاطف صامتا فسألنى الدكتور بديع: من هذا الذى سأل عنه رئيس المحكمة؟ هل هو واحد من الإخوان؟
قلت هامسا: نعم هو عمرو البلبيسى.
بديع: الحمد لله أن الضابط لم يتعرف عليه وإلا لكانوا قد قبضوا عليه هو الآخر، ربنا نجاه وأعمى بصرهم وبصيرتهم.
أنا: الحمد لله يا دكتور، ربنا ينجيكم.
بديع: على فكرة، إخوانك فى السجن يحبونك كلهم ويدعون لك بظهر الغيب، ويطلبون منك الأخذ بالأسباب، ولا تيأس إن لم تتحقق النتائج فما علينا إلا العمل.
أنا: طبعا طبعا يا دكتور، إحنا تلاميذك.
بديع: أنا من سجنى أساعدك قدر المستطاع، وقد أرسلت إلى إخوانك فى المكتب «مكتب الإرشاد» كى يكتبوا مقالة باسم الحاج مصطفى مشهور وينشروها فى جريدة «الشعب» عن زيارة الرئيس مبارك لبيروت ودعمه لها ولإميل لحود بعد الاعتداءات الإسرائيلية لها.
تدخَّل عاطف عواد قائلا: يا ريت تطلب منهم يا دكتور يكتبوها كويس ربنا يكرمك، أنا خايف يشتموا فى لبنان أو إميل لحود ويقولوا عليه شيعى أو دُرزى!
ابتسم الدكتور بديع وهو يقول: لا أنا طلبت منهم يمدحوا مبارك جدًّا، هذه فرصة لنا كى نثبت أننا لا نعارض من أجل المعارضة.
عاطف عواد: هوّ ده الكلام يا دكتور، ربنا يكرمك، ينبغى أن لا نكون عدميين، نحن نعارض الخطأ ونوافق على الصواب.
بعد انتهاء جلسة المحكمة جلست مع أحمد ربيع فى السيارة لمدة ساعة نتداول ما حدث بالجلسة، قلت له وأنا أختبر فراسته: أظن المسألة واضحة.
ضحك بخيبة أمل: للأسف آه.
استرسلت قائلا: هل يُعقل أن يكون عاطف الحسينى بجلالة قدر أهله لا يعرف مَن هو عمرو عبد الإله البلبيسى، عمرو العضو البارز بقسم المهنيين، عمرو الذى كتب توكيلا لحزب الوسط ثم سحبه؟!
قال أحمد وهو يبتسم ابتسامة ساخرة: أزيدك من الشعر بيتا، عمرو الذى استدعاه عاطف الحسينى أكثر من مرة للتحقيق معه فى أنشطة قسم النقابيين!
قلت: إذن هو من قام بالإبلاغ.
أحمد ربيع: قد لا يكون وحده، العصافير تغرد فى سماء الإخوان.
رددت قائلا: هل تشك فى آخرين؟
أحمد ربيع: هل تعرف أن الأخ إسماعيل بكير كان يعرف خبر اللقاء وكان من المفترض أن يذهب مع مختار نوح وخالد بدوى بسيارته إلا أنه اعتذر فى اللحظة الأخيرة مما جعلهما يستعينان بعم محمود سائق التاكسى المسكين الذى قبضت عليه مباحث أمن الدولة لأيام؟!
أنا: ولكن هذا ليس دليلا على شىء.
أحمد ربيع: نعم ولكن الاحتياط واجب، وخذ بالك أنت تعرف أن بعض أعضاء الإخوان كانوا ضباط مباحث سابقين وهم على صلة قوية بالأمن ويقدمون لقيادات الجماعة خدمات كثيرة من خلال علاقتهم بالقيادات الأمنية فى مصر.
أنا: اعقلها وتوكل.
ضحك أحمد ربيع قائلا: هل ستفعل كحسنى مبارك، مبارك قال مرة فى خطبة له «اعقلها وتوكل» وهو يشير إلى رأسه، وكأنه يظن أن اعقلها من إعمال العقل.
بادلته الضحك وأنا أقول: إذن اربطها وتوكل.
يسألنى صديقى دائما، ما الذى كسبته من محاولاتك التى بذلتها كى تصل إلى الحقيقة؟ أظنك خسرت كثيرا.، نعم يا صديقى، خسرت كثيرا، كى أكسب نفسى.
أعود إلى أوراقى التى دونت فيها مذكراتى كى آخذكم خطوة خطوة نحو كشف المستور، فالقصة لم تبدأ بعد، والحكاية ما زالت فى قلب الحاكى، تضع نفسها على الأوراق على مهل وتؤدة، وها أنا ذا أقرأ قصة «إيكاروس» الذى رام الوصول إلى الحقيقة فأخذ ينشد أهازيجه مترنما:
من رام نبع النور حاك نسيجه
حبلا إلى آفاقه ثم ارتقى
فتسلقوا صوب السماء وشمسها
فلرُبّ طين ٍ قد سما فتسلقا
ظنى أن كل من يحاول الوصول إلى الحقيقة هو «إيكاروس» الجديد، فخلف كل تجربة إنسانية ثرية «إيكاروس» الذى لن يموت ما بقيت الحياة.
الجماعة محضن كالأم، ولكنها يجب أن تتصرف كأم راشدة، الأم الطيبة صاحبة الأمومة الخالصة لا تحرم الوطن من أبنائها، ولا تسيطر على قراراتهم، الإخوان أحوج ما يكونون إلى الوطن، يحتاجون إلى الوقوف على أرضية الوطن لا على أرضية الجماعة، هم فى أشد الحاجة إلى حضن الوطن لا حضن الجماعة، فإذا تنكّبوا سبيل الوطنية فيجب أن نأخذ على أيديهم ليعودوا إلى الصف الوطنى، هكذا حدثتنى روحى، وهكذا تحدثت أنا مع محمد منيب، من محمد منيب؟ إذن اسمعوا قصته وقصتى، تلك القصة التى أماطت اللثام عن جزء من أسرار جماعة الإخوان المخفية، أو قل أماطت اللثام فى المقام الأول عن نفسية من يعيش عمره أسيرا «تحت التوقيف» فى جماعة الإخوان، أو بالأحرى فى جماعة سرية لا تعرف كيف تمارس الاختلاف فى الرأى بل وتعتبره ذنبا كبيرا، الجماعة السرية هى جماعة «إلغاء العقول».
محمد منيب المحامى، نقابى شهير، شغل بعد هذه القصة عضوية مجلس نقابة المحامين متحالفا مع جماعة الإخوان المسلمين، ثم شغل عضوية مجلس الشعب متحالفا أيضا مع جماعة الإخوان، انخرط منيب فى الأنشطة السياسية الناصرية وكان متهما فى إحدى القضايا التى حوكم فيها الناصريون فى أوائل الثمانينيات، وبعد خروجه من المعتقل أسهم فى تأسيس حزب الكرامة وأصبح أحد رموزه، وقد ربطتنى به صلة صداقة واحترام متبادَل، فهو رجل مثقف دمث الخلق، يجيد عرض فكرته ويقاتل من أجلها، ولعلكم ستعجبون حين أقول لكم إن محمد منيب كان هو مفتاح البداية.
بعد فترة المخاض التى انتهت بخروجى من الجماعة عام 2002 والتى اعتبرتُها شهادة ميلاد جديدة لى، حرصت على مقابلة معظم رموز الحركة الوطنية فى مصر، والحديث معهم وإنصات السمع لهم، فالذى أُصيب بالصمم الجزئى بحيث أصبح لا يسمع إلا من اتجاه واحد، يتوق شوقا إلى كل الأصوات من كل الاتجاهات إذا ما انفتحت أذناه على الدنيا، وحين جمعتنى الأقدار بالأستاذ محمد منيب دار بيننا حوار طويل عن التجربة الناصرية والتجربة الإخوانية.
قلت لمنيب: منذ فترة ليست بالقصيرة وأنا أعيش حالة مراجعة فكرية عن الإخوان والحركة الإسلامية وأولوياتها وفهمها، وأظن أننى وصلت من خلال هذه المراجعات والقراءات المتنوعة إلى مرحلة متقدمة، أجدنى الآن أقف على أرض غير أرض الإخوان.
رد منيب مندهشا: مَرْحَى يا صديقى، نحن كذلك فى «الكرامة» فعلنا مثلما تفعل ولعلك تابعت تصريحات حمدين صباحى عن رؤيته للتجربة الناصرية ونقده ما يتعلق بسلبيات الفترة الناصرية فى ما يتعلق بالحريات.
قلت: أنا الآن أكتب بعض أفكار عن الأفكار التى اختلفتُ معها، أدوِّنها لنفسى.
منيب: ولماذا لا تنشرها؟ أنا أيضا شرعت فى كتابة أفكار عن التجربة الناصرية ما لها وما عليها.
قلت: والله شىء طيب، أنا مستعد للنشر، فمثل هذه الدراسات النقدية يجب أن تخرج للناس، ويكون من الأفضل أن ننشر معا، ليتك تكتب مقالات عن نقدك للتجربة الناصرية، وأظن أن هناك الكثير من الصحف التى سترحب بالنشر لنا.
منيب: سأكتب، تقترح فى أى مكان ننشر.
قلت: أنا متواصل مع كثير من الصحف، وأستطيع الاتفاق مع جريدة «صوت الأمة» على هذا.
منيب: فليكن، اكتب ثم سأكتب أنا بعدك.
عكفت عدة أيام على الكتابة حتى أخرجت ثلاث مقالات، وبعد أن كتبت ذهبت بالمقالات إلى صديقين إخوانيين من أحبابى المقربين من منطقة الزيتون، الأول هو أحد الإخوان الكبار واسمه «محمد البدراوى» وهو أخ له تاريخ كبير فى الجماعة إلا أنه كان يحمل فى نفسه العديد من الانتقادات لتنظيم الإخوان فى عهده الجديد بعد أن وقع فى قبضة القطبيين، والأخ الثانى هو أحد شيوخ الإخوان من أصحاب التأثير الكبير على عامة الناس واسمه الشيخ «جابر حمدى» وكان أيضا كثير النقد للجماعة ولكنه لم يصدح بنقده أمام الناس، إذ كان يكتفى بالحديث معنا عن الهُوَّة السحيقة التى وقعت فيها الجماعة، وأزعم أننى تعلمت الكثير من هذين الأخين وما زلت مدينا بالفضل لهما، وإن كانت الأيام والأحداث قد باعدت بينى وبين الشيخ جابر حمدى، كان الأخان، ولا يزالان، من أصحاب الحظوة فى نفسى، ولعلنى أفسح لبعض الأسرار الشخصية أن تتحدث عن أحد هذين الأخين وهو الشيخ جابر، حيث كتب الله لى الحج عام 2000 وكنت فى رحلة الحج هذه مع فوج لا أعرف فيه أىَّ حاج، وفى مِنى دعوت الله من قلبى صادقا أن يجمعنى لحظة الدعاء بشخص أحبه. ثق أنك فى الحج مستجاب الدعوة، فقد كنت أظن أننى أطير ولا أمشى على قدمين من فرط الحالة الوجدانية النورانية التى احتوتنى، وسبحان الله، لم أكمل الدعاء حتى رأيت أمامى الشيخ جابر، وكانت مفاجأة لى، إذ لم أكن أعرف أنه يحج هذا العام!
شغلتُكم كثيرا بالكلام عن بعض جواهر أسرارى، ولكن حديثى هنا له مغزى، وحكايتى لها دلالة، فحينما عرضت على الصديقين أصحاب الفضل علىَّ المقالات التى كتبتها عن خواطرى النقدية للإخوان، رحَّبا بها كثيرا وناقشانى فى بعض معانيها، وأضاف إلىَّ الشيخ جابر بعض أفكارها، وفى نفس الجلسة عرض الأخ محمد البدراوى أن يفتح لى مجالا فى قناة «الجزيرة» وقتها كانت الوحيدة للمشاركة فى برنامج عن الإخوان ورأْى بعض المنفصلين والمفصولين فيها وفى منهجها الفكرى الأخير.
والآن بعد أن مرّ على هذا اللقاء عشر سنوات كاملة، تسكن قلبى الطمأنينة وأنا أتذكر تأثير كلامهما الطيب على نفسى وعقلى: نحن لا نبتغى النقد للنقد، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، كان فى قلبى قبل هذا اللقاء بعض الشذرات التى تجرح ضميرى، كيف أنتقدهم؟! أليست هذه خيانة للعيش والملح؟! من أجل «عضم التربة» الذى جمعنا لا تجعل كلماتك تفرقنا.. بلا جدال كنت أشعر بالحرج من أننى سأتعرض للجماعة بالنقد العلنى، ولكن هبطت كلماتهما على فؤادى فهدهدت شكوكى، تأصيلهما الفقهى للنقد العلنى للجماعة سكن فى ضميرى وأراح فؤادى، قلت لهما قبل أن أنصرف: أنا لا أملك إلا كلمتى سأقولها، والأجر والثواب على الله.
كان صديقى الصحفى الكبير أسامة سلامة رئيس تحرير مجلة «روزاليوسف» وقتها قد قدمنى للأستاذ عادل حمودة فى أثناء قضية النقابيين، والحق أن الأستاذ عادل حمودة رغم خصومته الفكرية مع الإخوان فإنه فتح صحيفة «صوت الأمة» للدفاع عن الدكتور محمد بديع ومختار نوح وإخوانهما المحبوسين، كنت أنا بطبيعة الحال مصدر كل الأخبار التى تم نشرها فى الصحيفة دفاعا عن الإخوان، بل إنه فى أحد الأعداد نشر الأستاذ حمودة رسالة من الإخوان المحبوسين موجهة إلى الأستاذ رجائى عطية وجعلها العنوان الرئيسى للصفحة الأولى للجريدة، وكانت الرسالة مقصودة فى ذاتها لكى يصل صوت المحبوسين للرأى العام، قال لى الأستاذ عادل: أنا أختلف مع الإخوان جدا ولكننى مع حقهم فى الحرية.
عندما أخبرت الأستاذ حمودة بأن لدىَّ سلسلة مقالات عن الإخوان وهى بمثابة دراسة نقدية لهم، رحب بنشرها جميعا، كانت افتتاحية المقالة الأولى مشكلة، إذ انتقدتُ فيها المستشار مأمون الهضيبى، وقلت إنه قال فى مناظرته بمعرض الكتاب فى أوائل التسعينيات فى مواجهة فرج فودة «إن الإخوان يتعبّدون لله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة»، وإن كلماته هذه كانت جارحة لمدنيتى وسلميتى، أنتعبد لله بالاغتيالات والتفجيرات؟!! أىُّ إسلام هذا؟! وما الذى دعا المستشار الذى يحترم القانون إلى أن يقول قولا لا يحترم القانون؟!
نُشرت المقالة فى جريدة «صوت الأمة»، وكانت بمثابة مفاجأة لكثيرين، أذكر أن المقالة الأولى أثارت حالة من الجدل، ولو عدنا إلى هذه المقالات لوجدتنى أستشرف فيها مستقبل الجماعة وأكتب أدواءها.
رنّ هاتفى المحمول مساء اليوم التالى لنشر المقال وكان الذى يهاتفنى هو الصديق الصحفى عبد الحفيظ سعد الذى كان يعمل وقتها فى «صوت الأمة».
قال لى عبد الحفيظ: المقال عامل ردود فعل كبيرة يا أبو يحيى، وهناك من أرسل إلينا ردًّا على مقالك.
استفسرت قائلا: مَن الذى أرسل؟
عبد الحفيظ: الأستاذ محمد البدراوى والشيخ جابر حمدى.
قلت: تقصد أنهما أرسلا يؤيدان نقدى أو يختلفان مع بعضه؟
عبد الحفيظ: لا، يردان عليك، يقولان كلاما سيئا فى حقك، سأحضر لك ردهما لأن الأستاذ عادل يريد أن ترد أنت عليهما، ستصاب «بالاستبحس» والذهول يا صديقى عندما تقرأ ردهما.
لم يتلقَّ عبد الحفيظ ردًّا منى فقد كان الصمت حينئذ أبلغ من الكلام.
الحلقة الثالثة الإثنين القادم
الثالثة
ثروت الخرباوي
آهٍ من هؤلاء الذين لا يرون إلا أنفسهم فلا يشعرون بآلام الآخرين، يبصرون ذاتهم فيجزعون من همسة تمسهم فيبطشون بأحبابهم، آهٍ منهم وهم يشعرون أنهم الشمس وأن أحبابهم هم الكواكب التى ينبغى أن تدور فى فلكهم، تحكى الأسطورة القديمة أنه كان هناك شاب اسمه نرسيس كان مفتونا بنفسه، رأى هذا الشاب بحيرة صافية فلم ينتبه إلى جمالها، ولكن أسعده فقط أنه كان يرى وجهه من خلال صفحة ماء البحيرة الصافى التى كانت فى جلاء المرآة، فكان يذهب إلى البحيرة كل يوم ليتأمل جمال وجهه، كان مفتونا بصورته ذاهلا عما حوله لدرجة أنه لم ينتبه إلى موضع قدميه فسقط فى البحيرة وغرق، وفى المكان الذى سقط فيه نبتت زهرة سُميت نرسيس (نرجس) وعندما مرت الملائكة على البحيرة وجدتها تحولت إلى دموع، لم يدهشهن هذا فلا بد أن البحيرة حزنت كثيرا على نرسيس الجميل الذى كان يأتى إليها كل يوم، ولكن البحيرة قالت للملائكة إنها لم تلاحظ أبدا أن نرسيس جميل لأنها كانت دائما مشغولة عندما ينحنى على ضفافها بتأمل جمال صفحتها فى عينيه.
لم أتحدث من قبل عن الشيخ جابر حمدى ومنزلته فى قلبى، وأظنه يجهل هذه المنزلة لأنه لم ينظر إلى قلبى قط، وعلى قدر حبك لصديقك يكون مقدار ألمك، فما بالك عندما تكون الضربة الموجعة من صديقين هما الأقرب إلى قلبى، محمد البدراوى وجابر حمدى… قال لى عاطف عواد ذات يوم: لقد قدَّمتَ لهما الكثير، فقلت له: إنما كنت أقدم لنفسى عند الله.
عندما زارنى صديقى الصحفى عبد الحفيظ سعد أعطانى صورة من رد جابر حمدى ومحمد البدراوى على مقالى الأول، طويته ولم أرغب فى قراءته أمامه.
سألنى: أفلا تقرؤه؟
قلت باقتضاب: ليس الآن.
عبد الحفيظ: الأستاذ عادل منتظر تعقيبك على ردهما.
مستمرا فى اقتضابى: لن أرد.
عبد الحفيظ مندهشا: لماذا يا أبو يحيى، ردهما فيه إساءة إليك؟!
قلت بلا مبالاة مصطنعة: فليكن، أحب أن أحصل على حقى فى يوم أعظم من أيام الدنيا، ليتكم تنشرون ردهما كاملا، وسيظل العمود المواجه لردهما شاغرا لا يحير جوابا.
ظل الرد مطويا عندى ليوم لم أفضّه أو ألمسه، وكأن الزمن توقف عندى ولم يتحرك، أو كأن الدنيا تجمدت عند هذه الورقة، ألا يتحرك الزمن؟! ألا لعنة الله على الذاكرة، قد تنسى الإساءة وتغفر لأحبابك ولكنك لن تنسى الألم أبدا.
قرأت الرد، انغرست كلماته فى ذاكرتى، كانت الكلمات حادة قاسية غاضبة لا مشاعر فيها، وكأنها حجارة تدحرجت على رأسى من فوق جبل صخرى… أسلوب الكتابة كان للشيخ جابر حمدى، هكذا هى لغته عندما يكون غاضبا، أما محمد البدراوى فلا يغلق الأبواب أبدا فى وجه أحد، قد يفتحها على مصراعيها، وقد يواربها.
«… ما الجهة التى دفعتك لكتابة هذا المقال… ما سردته فى مقالك يصب فى مصلحة أعداء الإسلام… أفكارك هى أفكار من ظلوا يحاربون الإخوان لحاجة فى أنفسهم.. نقدك غير صحيح وقد حركه الهوى والغل وأنت تتجنّى على إخوانك أصحاب الفضل عليك، ما نسبته إلى أخينا الكبير المستشار محمد المأمون الهضيبى محض كذب… توقيع محمد حسنين البدراوى، جابر محمد حمدى».
غالبت دموعى وأنا أقرأ الرد، أقنعت نفسى أنه لا يهمّ أن يكون هذا هو سلوك الأصدقاء، المهم هو أن يكون سلوكك معبرا عن قيمتك، أنت تمارس قناعاتك أنت، فدعهم يمارسون طموحاتهم.
ولكن يبدو أن هناك أشياء لا أعرفها حدثت فألزمتهم بهذا الرد المؤلم! مأساة أن تكون مكبَّلا لا تستطيع أن تعبر عن رأيك، مأساة أن يكون قرارك وفكرك مرهونا عند آخرين يملكون إرغامك على الصمت وإرغامك على الكلام… بئست العبودية التى جعلت بعضنا مسوخا مشوهة.
كانت إرهاصات هذا الرد مفصحة عن نفسها قبل ساعات من نشر مقالى فى «صوت الأمة»، فقد كنت أحضر عزاء والد زوجة الشيخ جابر حمدى، وعندما سلمت عليه معزيا همس فى أذنى: لا تنشر المقالات، اسحبها فورا.
قلت له: قُضى الأمر الذى فيه تستفتيان، الجريدة خرجت من المطبعة وبعد ساعتين ستكون عند الباعة، ولكن لماذا أسحب المقال؟
زَمّ جابر شفتيه ثم قال: غيَّرت رأيى، لا أوافقك على النقد العلنى.
قلت مندهشا: ولكننى لم أغير رأيى، هذا مقالى وليس مقالك، هذه أفكارى استقيتها من تجربتى ومن تجارب الآخرين وأنت واحد من هؤلاء الذين كوّنت جزءا من رأيى من خلالهم.
أومأ جابر برأسه مبديا امتعاضه فأوجست خيفة، يبدو أن التاريخ ما فتئ يعيد عبارة قيصر: حتى أنت يا بروتس.
بعد أن قرأت الرد غمرتنى حالة من السكينة وكأننى أسبح فى بحر اليقين، كل الدنيا تتهاوى أمام اليقين، وما رحلتى فى جماعة الإخوان إلا خطوات مشيتها للبحث عن الحقيقة، ما الإخوان؟ ما الدنيا؟ ما الزمن؟ ما الحق؟ دار فى ضميرى أننا فى حياتنا الدنيا نسير فى رحلة اليقين، نصعد فى مدارجه، من علم اليقين، إلى عين اليقين، إلى حق اليقين، وإذا بنا من نور اليقين، وأين نحن من نور اليقين!
سمعت مفكرا كبيرا يقول: إن الحاضر لا زمن له، تأملت هذه الكلمة وأنا أسترجع الأحداث الرهيبة التى مرت بى وأنا فى جماعة الإخوان أو تلك التى مرت بى بعد أن تركتها، الحاضر لا زمن له، كلمة تستحق التأمل، هل يستطيع أحدنا أن يضبط الوقت الحاضر ويحبسه حتى لا يمر؟! نعم نحن نشاهده ونشعر به ولكنه فى عمر اللحظة لا شىء، ولكن وحده القلم هو الذى يستطيع أن يستدعى الماضى ويجعله حاضرا، تظل الكلمة مكتوبة فيظل الحاضر قائما.
ولكن ما جدوى أن يظل الحاضر قائما، أليس هذا مدعاة لأن يتكرر الألم، لأن يتكرر الألم أفضل من أن تضيع التجربة، فالتجربة هى إضافة ثرية تستفيد منها البشرية، والألم هو نغزة فى قلب واحد من البشر، والبشرية أبقى من البشر، وفى لحظات الألم يستدعى الإنسان من يخفف عنه ألمه، يبث لهم شجونه، خفت أن أحكى ما حدث من «الصديقين» لصديقى أحمد ربيع الذى كان رفيقا لى فى رحلة «التصحيح الإخوانية» فالله أعلم بما يدور فى كواليس الإخوان الخفية، وسبحان الله مقلِّب القلوب، ولكننى جلست مع صديقين آخرين لا علاقة لهما بالإخوان أحكى لهما وأنزف لهما ألمى.
الصديق الأول هو «السيد على حامد» وهو من الشخصيات النادرة التى قلّما تقابلها فى حياتك، فهو شخصية مسالمة راضية قنوعة هادئة متصالحة مع ذاتها، لا يحب المعارك ولا الخصومة، وقد كان رفيق رحلة عمر، قضينا فى مكتب المرحوم محمد علوان سنوات، ووقعّنا معا على استمارة عضوية بحزب الوفد عندما طلب منا فؤاد باشا سراج الدين ذلك، جمعتنا الأيام والأحداث فلم نفترق منذ أن تعارفنا، وهو مع قناعته وصل إلى أعلى المناصب فى قطاع البنوك.
طَيّب «سيد حامد» خاطرى وهدهد ألمى وأخذ يضاحكنى ويذكّرنى بمرافعة مضحكة ترافعها أحد الزملاء المحامين فى قضية إعلام وراثة وكأنها جناية قتل، وطلب منى أن ألتمس العذر لأصدقائى فلعلهم أُرغموا على ذلك.
الصديق الثانى الذى رويت له ما حدث هو عاطف عواد الذى تعرفونه والذى ترك الإخوان قبلى، وقد أبدى عاطف أسفه مما حدث وقال لى: لقد رفعنا بعضهم فوق أكتافنا فلم نشمّ منهم إلا رائحة أحذيتهم الكريهة، ثم دعانى عاطف إلى حضور اجتماع مهم فى مكتب المحامى عصام سلطان بشارع قصر العينى.
حين حضرت الاجتماع كنت مشتت الذهن، لم أنتبه إلى تفصيلات الحوار وإن كنت قد عرفت مضمونه، كان الموضوع هو البحث عن صيغة تجتمع حولها قوى المعارضة لمواجهة مبارك ومسلسل التوريث، وقت هذا الاجتماع لم تكن «حركة كفاية» قد نشأت بعد، ويبدو أن هذا الاجتماع كان من إرهاصات «كفاية» كان الحاضرون هم: الكاتب الصحفى إبراهيم عيسى، والكاتب الصحفى جمال فهمى عضو مجلس نقابة الصحفيين، وعاطف عواد، وعصام سلطان، والمحامى الناصرى المثقف ياسر فتحى.
فى نهاية الاجتماع قال لى إبراهيم عيسى قبل أن ينصرف من اللقاء: أنا عرفت من عاطف وعصام إن بعض أصحابك أرسلوا ردا على مقالك لـ«صوت الأمة»، ماذا ستفعل هل سترد عليهما؟
قلت وأنا أصطنع ابتسامة: لا لن أرد.
إبراهيم عيسى ضاحكا: طول عمرى وأنا أقول إن هذه الجماعة هى عبارة عن جسد ديناصور وعقل عصفور، إذا حدث جديد أخبرنى فهذه الجماعة تمارس الأكشن والإثارة.
وفى نفس اليوم هاتفنى عبد الحفيظ سعد: أنا مش قادر أفهم الناس دى.
أنا: خير، حصل إيه تانى؟
عبد الحفيظ: ألغازهم باتت غير مفهومة.
قلت له مستفهما: هل من جديد؟
عبد الحفيظ: أرسل صاحبك محمد البدراوى محاميا إخوانيا مفوَّضًا منه ومن الجماعة يطلب سحب رده هو وجابر حمدى وعدم نشره، وأعطانا بدلا منه ردًّا من المستشار مأمون الهضيبى، وسآتى إليك برد الهضيبى لعلك ترد عليه.
أمامى ساعات ويجب أن أعقّب فيها على رد مأمون الهضيبى، ولكن رد الهضيبى أثار علامة استفهام كبرى فى خاطرى، الرجل يكذب، نعم مأمون الهضيبى كذاب، كذاب، يبدو أن مقدمة مقالى هى التى أوجعته فاضطر إلى الكذب وكأنه يدارى سوأته فطفق يخصف عليها من ورق بعض الكتب.
كنت قد كتبت فى مقدمة مقالى: صدمتنى عبارة قالها المستشار مأمون الهضيبى فى مناظرته بمعرض الكتاب عام 1992 فى مواجهة فرج فودة: «نحن نتعبد لله بأعمال النظام الخاص للإخوان المسلمين قبل الثورة».
كانت هذه العبارة فى مقالى هى موضع رد المستشار الهضيبى حيث قال: إن الكاتب لم يكن صادقا حين نسب هذه العبارة إلىّ.
استشهد الهضيبى فى رده بتفريغ المناظرة الذى قامت به هيئة الكتاب، حيث وضعت المناظرة كلها فى كتاب نشرته وطرحته فى الأسواق، وقال إن تفريغ هيئة الكتاب لم يَرِد به هذه العبارة مما يدل على أن الكاتب غير صادق، دار رأسى من هذا الرد، فأنا أثق بذاكرتى خصوصا أن هذه العبارة تركت أثرا عميقا فى نفسى بل كانت بداية لبحثى عن «الحقيقة»، هذه العبارة بالذات هى التى فتحت لى حوارا مع أسامة الغزاوى وهو أحد الإخوان من منطقة الزيتون الذى قصَّ علىَّ لماذا تذلف الهضيبى للنظام الخاص ورجاله، كانت قصته معهم مثل قصة «تاييس» التى كتبها الروائى الفرنسى «أناتول فرانس» عن تاييس والراهب بافنوس.. ذهب بافنوس إلى تاييس كى يسحبها إلى دائرة الإيمان فخرج هو من دائرة الإيمان، فهل يُعقل أن تكون هذه العبارة قد اختفت عند تفريغ المناظرة فى كتاب؟ هل كانت سقطة لسان من الهضيبى فخاف أن يمسكها الناس عليه؟ ولكن من الذى حذفها؟! هل الإخوان يسيطرون على الهيئة المصرية للكتاب دون أن يدرى أحد؟! كان لا بد أن يكون ردى موثَّقا فقضيت يومى أبحث عن أحد يكون قد سجل المناظرة، سألت صديقى الصحفى أسامة سلامة الذى سأل بدوره الكاتب الصحفى حلمى النمنم الذى يهتم بالتأريخ إلا أن الرد جاء محمولا بخيبة الأمل، تذكّر حلمى النمنم أن الهضيبى قال هذه العبارة إلا أنه لم يجد تسجيلا للمناظرة!
وكان من حظى أن عثرت عند عاطف عواد على تسجيل كاسيت، وشريط فيديو للمناظرة، ولكن المدهش أن هذه العبارة لم تكن موجودة فى الشريطين، لا الكاسيت ولا الفيديو، هل تبخرت؟! هل أنا أحد أفراد فيلم «المنسى» لجوليان مور «FORGOTTEN» حيث قامت كائنات فضائية بمحو ذاكرة البشر ولكنها فشلت فى أن تمحو طفلا صغيرا قامت باختطافه من ذاكرة أمه، قامت الكائنات الفضائية بمحو كل شىء يدل على وجود هذا الطفل إلا أن قلب الأم ظل حافظا له حتى إن الناس اتهموها بالجنون، فيلم «المنسى» الإخوانى لا يبتعد كثيرا عن فيلم جوليان مور، فقد قامت كائنات إخوانية بمحو كل شىء يدل على أن الهضيبى قال فى معرض الكتاب عام 1992: إن الإخوان يتعبّدون لله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة! ولكن قلبى ظل متذكرا هذه العبارة التى كانت صادمة لى كما وصفتها فى مقالى.
نسى الكل هذه العبارة إلا صديقى المهندس أحمد حامد، لم تكن لأحمد حامد علاقة تنظيمية بالإخوان، إذ كان أحد نشطاء حزب الوسط، وكان من المتفاعلين مع أنشطة الحزب، بل كان مسؤولا فى فترة من الفترات عن تنظيم بعض فاعليات الحزب، وفى ذات الوقت كان من النشطاء فى جمعية «مصر للثقافة والحوار» وهو أحد التلاميذ المقربين للدكتور محمد سليم العوا، حيث كان يحضر كل محاضراته وندواته، وبحكم صداقته لى ولمجموعة من الأصدقاء المقربين منى، وفى نفس اليوم الذى كنت أبحث فيه عن تسجيل كامل للمناظرة جلست مع أصدقائنا فى مقهى قريب من جمعية «مصر للثقافة والحوار»، استمع أحمد حامد إلى كلماتى الساخطة المندهشة، ثم غاب عنا برهة، وكانت مفاجأة بمعنى الكلمة حين عاد وهو يحمل معه شريط فيديو للمناظرة، كان أحمد قد غافلنا وذهب إلى قريب له يسكن بالجوار وحصل من أحد أقاربه من كبار الإخوان على نسخة من الشريط الأصلى للمناظرة.
بعد نصف ساعة كنا نجلس عاطف عواد وأحمد حامد وأنا فى بيتى نشاهد الشريط، وحين وصلنا إلى الجزء الذى تحدث فيه الهضيبى كانت المفاجأة.
الحلقة الرابعه تستكمل الأربعاء
الرابعة
الهضيبى فى استقبال ياسر عرفات
لا أخفيكم سرًا أننى كنت فى قمة الشك، خفت من أن تكون ذاكرتى قد خدعتنى وسولت لى أن الرجل قال وهو لم يقل، فعل وهو لم يفعل، ألا يحدث للعقل البشرى فى أحيان كثيرة نوع من الخلط؟! لذلك كنت فى قمة التركيز والانتباه وأنا أشاهد شريط الفيديو مع أصدقائى، ها هو ذا المقطع محل الخلاف، مادت الأرض تحت قدمى حينما نطق المستشار مأمون الهضيبى بالكلمات التى أنكرها: «نحن نتعبد لله بأعمال النظام الخاص قبل الثورة»، قمت بإيقاف الشريط، وأعدت المقطع من أوله وتخيلت أننى أستمع إلى «بينوكيو»، وكلما نطق بهذه العبارة كبر أنفه قليلا حتى كادت أنفه تخرج من شاشة التليفزيون! استطرد الهضيبى وهو يضع تبريرا لكلماته فقال: كنا نجاهد، والمجاهد يُباح له ما لا يُباح للآخرين، وضرب مثلا بالاغتيالات التى ارتكبها الحزب الشيوعى اليونانى فى أربعينيات القرن العشرين، قال: لماذا لا تعيبون على الحزب الشيوعى اليونانى ارتكاب جرائم اغتيالات لمدنيين من بنى وطنهم! أيباح لهم هذا ولا يباح لنا؟! أحلال على بلابله الدوح حرام على الطير من كل جنس؟! تخيلته ساعتها وهو يخرج لسانه لمصر كلها وكأن لسان حاله يقول: موتوا بغيظكم يا أهل مصر، قتلناكم لأننا أهل الحق وأنتم أهل الباطل، نحن أمة الإسلام، وأنتم أمة الكفر والطغيان.
سر شريط فيديو مناظرة معرض الكتاب الذى أخفاه الإخوان ويؤكد كذب الهضيبى
الإخوان جماعة دعوية ضلت طريقها إلى السياسة.. زعمت أنها تريد أن تُصلح السياسة بالدين فأفسدت دينها بالسياسة!.. لكن أين هى من الدعوة؟
سبحانك ربى، لقد وجد الهضيبى للاغتيالات التى قام بها الإخوان قبل الثورة غطاءً سياسيا شيوعيا، هل نستطيع أن نطلق على منطق الهضيبى عبارة «الفقه التبريرى»، إذن ما الفقه الذى استند إليه وهو يكذب على مصر كلها حين ادعى أنه لم يقل هذه العبارة؟ الغاية تبرر الوسيلة بطبعتها الإخوانية! التطبيق المتعسف لقاعدة «الضرورات تبيح المحظورات! الحرب خدعة، على اعتبار أن الإخوان يحاربون أمة الضلال لينشروا الإسلام! استمعت إلى الشريط كاملا ثم أخذت نفسى دور الواعظ التقليدى، وكأننى كنت أعظ المستبد الذى يتدثر بالدين ليحيط استبداده بقداسة ما: من هو الذى سيربح حينما يكتشف الناس أنك كذاب، الكذاب يخسر دائما، والصادق حتما يربح نفسه وضميره ودينه حتى ولو لم يصدقه الناس، لا يهم أن تُرضى الناس، فرضاؤهم غاية لا تدرك، لكن يكفيك أن تُرضى ربك، فإذا رضى عنك سترضى عنك الناس.
تروى الأسطورة الهندية القديمة أنه كان هناك ملك ثرى لا تنفد أمواله، وفى يوم أعلن الملك لشعبه: من يروى لى حكاية تجبرنى على أن أقول له أنت كذاب، سوف أهبه نصف ملكى، وسأجعل من حكيم المملكة حكما ليقضى بيننا.
وفى اليوم الأول زار القصر تاجر من الشعب، وقال للملك: دام عزك يا مولاى، أنت تعلم أننى من عائلة «الصادقين»، نقول الصدق ولا نكذب أبدا، وقد ترك لى والدى عصا غريبة جدا، هذه العصا هى أطول عصا عرفها البشر، لدرجة أن والدى عليه رحمة الله كان يرفعها فى السماء فيحرك بها النجوم، فقال الملك: لا أيها التاجر الصادق هذه ليست العصا الأطول، فإن أبى كانت لديه عصا يرفعها إلى السماء فيشعل طرفها الثانى من الشمس! سمع حكيم المملكة الحوار فقال للرجل: لقد عجزت عن أن تجعل الملك يقول لك أنت كذاب، لذلك أنت من الخاسرين، فخرج الكذاب مخلفا وراءه خيبة أمل، وفى اليوم التالى زار القصر خياط، وقال للملك: المعذرة يا مولاى كما تعلمون أن البارحة هطلت الأمطار غزيرة، واشتدت لدرجة أن السماء تشققت فقمتُ بخياطتها، فقال له الملك خير ما فعلت، لكنك لم تحسن الخياطة فصباح اليوم هطلت زخات خفيفة من المطر، سمع الحكيم الحوار فقال للخياط نفس قوله للكذاب الأول، فخرج الخياط مخلفا وراءه خيبة الأمل.
وحده الذى كان يملك الحقيقة قروى عجوز صادق، ظل عمره يبحث عن حق له سلبه منه الملك، فقد كان يحفر فى أرض له منذ زمن بعيد فعثر على جرة ذهب، فأخذها إلى كوخه سعيدًا، وعندما عرف الملك خبر جرة الذهب، سلبها من القروى الفقير! لم يتوانَ الفقير الصادق عن البحث عن حقه المسلوب، لكن قضاة المملكة كانوا يرفضون قضيته، حتى مرت سنوات وحق الرجل مسلوب، فقرر أن يذهب إلى الملك فى قصره كى يطالبه بحقه، فقال له الملك حين دخل عليه: وأنت يا رجل ماذا تريد؟ فقال القروى الصادق أنت مدين لى بجرة من الذهب جئت لآخذها؟
استغرب الملك وقال: أنت كاذب لستُ مدينا لك بشىء، فقال حكيم المملكة للملك: بما أنك قلت إنه كاذب فقد صارت نصف المملكة من حقه، فتذكر الملك وعده فعدل عن قوله، وقال: لا إنه صادق، فقال الحكيم: إذن فأعطه جرة الذهب، فخرج القروى وهو يحمل جرة الذهب، وقد أصيب الملك بخيبة الأمل!
■ ■ ■
حضر لى فى نفس اليوم فى وقت متأخر من الليل الصديق الصحفى عبد الحفيظ سعد، أخبرته بمحتوى الشريط وما فيه، فقال وهو يستحثنى بلكنته الصعيدية المحببة: ممتاز يا بو يحيى، ثم استرسل ضاحكا: دى ضربة جامدة فى الدماغ، يا فضيحتك يا هضيبى! أنا عاوز أعرف هما الناس دى بتعمل كده ليه، والله إنت ربنا نجاك من الناس دول، عاوزين بقى رد تكتبه تعقيبا على الهضيبى مدعما بالشريط.
أمعنت التفكير، الآن وأنا بين يدى دليل قطعى لا شك فيه يجب أن أترفع عن الرد على الهضيبى، سأجعله يرد على نفسه، الهضيبى يكذب الهضيبى، عزمت أمرى على أن لا أكتب ردا، لكننى أعطيت شريط الفيديو للجريدة، وطلبت منه أن ترد الجريدة على الهضيبى، واقترحت عنوانا هو «الهضيبى يرد على الهضيبى»، وبالفعل خرجت صحيفة «صوت الأمة» وهى تحمل تكذيب الهضيبى الذى قال فيه: إن الكاتب لم يكن صادقا حين نسب هذه العبارة لى، استشهد الهضيبى فى رده بتفريغ المناظرة الذى قامت به هيئة الكتاب، أقسم جهد أيمانه أنه صادق، أما الكاتب الذى هو أنا فكاذب! نشرت الجريدة رد الهضيبى كاملا، وفى العمود المقابل لرد الهضيبى نشرت تعقيبا منها على هذا الرد، قالت فيه إن الجريدة تحت يدها شريط الفيديو الذى يدل على أن الهضيبى قال هذه العبارة، وقامت الجريدة بتفريغ الجزء المتعلق بهذا المقطع من المناظرة، وأبدت أسفها على أن المستشار مأمون الهضيبى كذاب! كان الأمر مؤسفا مؤلما، لكن القصة كلها أكدت أن الراهب بافنوس حينما ذهب ليستدعى الغانية تاييس إلى أرض الفضيلة، ظل مقيما فى أرض الرذيلة، لكن هل كانت أرض الإخوان هى أرض الفضيلة؟ هل هى أرض الشريعة فعلا؟
جماعة دعوية ضلت طريقها إلى السياسة، زعمت أنها تريد أن تُصلح السياسة بالدين فأفسدت دينها بالسياسة! لكن هل هى جماعة دعوية بالفعل؟ أين هى من الدعوة؟ بعد سنوات من هذه القصة وفى أثناء بحثى عن الحقيقة أهدانى الله طرف الخيط، عمر التلمسانى أول من اكتشف تسلل السرطان إلى جسد الإخوان، سرطان لا يعرف أحد خبره حتى هذه اللحظة التى أكتب فيها هذه الكلمات، مات التلمسانى عليه رحمة الله وكان من المفترض أن يموت معه السر الرهيب، ظن كهنة المعبد أن سرهم تم دفنه فى مقبرة التلمسانى، أرادوا أن يمحوا وجود الرجل حتى بعد موته، فأزالوا اسمه من على مقبرته ووضعوا اسم كاهنهم الأكبر «مصطفى مشهور»، ورغم ذلك وقعتُ على طرف من السر فتعقبته إلى أن وصلت إلى صندوق الأسرار.
■ ■ ■
فى سجون عبد الناصر كان هناك شاب صغير، أبيض الوجه أسود الشعر له نظرة عميقة متفرسة، ووجه غاضب جاد، تعوَّد هذا الشاب على أن يفرق شعر رأسه من المنتصف اقتداءً منه برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان هذا الشاب الصغير قد سيق به إلى السجن فى قضية تنظيم سيد قطب عام 1965، إذ كان من المحبين له والمتلقين منه، كان كل زوار سيد قطب فى فيلته بضاحية حلوان يجدون هذا الشاب جالسا تحت قدم سيد قطب مثل طلبة العلم فى القرون الأولى، يحمل ورقة وقلما، يدون فيها كل شاردة وواردة من أقوال قطب ولفتاته، وحين تم كشف تنظيم سيد قطب الذى كان يستهدف اغتيال جمال عبد الناصر باعتباره رأس الجاهلية فى القرن العشرين وفقا لفقه سيد قطب، بدأت عمليات القبض على أفراد التنظيم، فكان أن فرّ هذا الشاب هاربا، حيث اختبأ فى ضاحية من ضواحى القاهرة عند بعض معارفه من الإخوان المسلمين، فقد كان هذا الشاب إخوانيا حتى النخاع، تم ضمه للجماعة عن طريق الشيخ الإخوانى الأزهرى على إسماعيل، ومن خلاله تعرف على سيد قطب حيث توثقت صلته به، وفى صالونه تعرف على الشيخ عبد الفتاح إسماعيل أحد المقربين من سيد قطب، كما تعرف على الحاجة زينب الغزالى، وفى صالون سيد قطب أيضا تعرف هذا الشاب على شابين آخرين أعجبا به واعتبراه شيخهما فقد كان متميزا بين أقرانه حافظا لبعض كتب التراث، وكان يجتهد فى حفظ القرآن الكريم، وفوق ذلك كان يحفظ بعض تفسيرات سيد قطب للقرآن التى أوردها فى كتابه «فى ظلال القرآن».
وفى شقة صغيرة بمنطقة زراعية فى عزبة النخل كان هذا الشاب يجلس مع رفيقيه القطبيين يشرح لهما كتاب «معالم فى الطريق»، ويفتح لهما المغاليق التى وقفت أمامهما من فكر أبو الأعلى المودودى، كانت فكرة المعصية هى التى تستحوذ على تفكير هذا الشاب، المعصية هى التى أخرجت آدم من الجنة، أيترتب على المعصية خروج المسلم من الدين؟ لماذا قال الله سبحانه وتعالى فى سورة النساء (ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين)، هذا هو قول الله، يترتب على المعصية الخلود فى النار، ولا يخلد فى النار إلا الكافرون، إذن المعصية تُخرج المسلم من الإسلام، لكن هل من نطلق عليهم (المسلمين) هم فعلا يؤمنون بالإسلام؟ إذا كانوا كذلك فلماذا يتحاكمون إلى الطاغوت ولا يتحاكمون لله رب العالمين، ألا يعرفون قوله (إن الحكم إلا لله) كانت هذه هى الأفكار التى يعيش بها وفيها هذا الشاب، وكانت هذه هى الأسئلة التى ظل يبحث عن إجابتها عند سيد قطب، ثم أخذ يبثها على مهل لصاحبيه ولآخرين من شباب الإخوان.
ظل هذا الشاب مختبئا عند رفاق له من الإخوان حتى إذا ضُيق عليه الخناق استقر به المقام فى مسجد منعزل، حيث حلق لحيته وقص شعره وأقام فى المسجد كمقيم للشعائر ومؤذن للصلاة، إلا أن أحدهم شك فيه فأبلغ عنه فتم القبض عليه وأودع فى سجن طرة مع المجموعة التى تم القبض عليها، ولا أظن أن أحدا كان يعلم أن هذا الشاب سيغير تاريخ الحركة الإسلامية وسيظل أثره ممتدا لأجيال وأجيال.
■ ■ ■
هل هناك من صلة بين عام 1965 وأعوام الرخاء الإخوانى فى الفترة من ثمانينيات القرن الماضى وحتى عام 1992؟ ثم هل هناك من رابطة أخوية بين عام 1965 وعام 1986؟ كانت هناك شذرات صغيرة لا تدل بذاتها على شىء، فوجئت بها، لكننى لم أعرها اهتماما، قلت إن الأمور تؤخذ بقدرها، وكنت غافلا عن معانيها ودلالاتها، لم أكن أظن أن هناك أى علاقات نسب أو أخوة بين السنوات، هذه أيام الله، فما صلة هذا العام بذاك العام! لكننى إذا وضعت يدى على أول الخيط بدأت أسترجع تلك الشذرات لأضعها فى سياقها الطبيعى، وإذا كان معظم النار من مستصغر الشرر فإن معظم الأسرار يكشفها مستصغر الصدف، هكذا حدثنا التاريخ.
كانت سنة 1992 من السنوات المؤثرة فى تاريخ مصر، هى سنة الزلزال، وهى عام نجاح الإخوان فى انتخابات النقابة العامة للمحامين، كان نجاح الإخوان بمثابة صدمة لمؤسسات المجتمع المدنى فى مصر، فقد كانت نقابة المحامين عصية على الخضوع لهيمنة الإخوان بحسب أنها نقابة سياسية ليبرالية، ولذلك قالت صحيفة «الواشنطون بوست» الأمريكية فى تحليل لها لنجاح الإخوان: إن هذا النجاح هو الزلزال الحقيقى الذى أصاب مصر، وما حدث بعد ذلك من اهتزاز فى القشرة الأرضية لمصر هو بمثابة «توابع الزلزال الأول».
بعد هذا النجاح الزلزالى كنا قد عقدنا العزم على أن نخوض انتخابات النقابات الفرعية للمحامين كلها، بما يشبه الزحف المقدس، وطلبنا من كل محافظة إخوانية أن تجرى انتخابات داخلية لاختيار مرشحيها، وفى محافظة القاهرة كان من المفترض أن نشكل قائمة من خمسة أفراد، وأجريت الانتخابات الداخلية، عقدنا هذه الانتخابات فى مكتب جمال تاج الدين بمنطقة حلمية الزيتون، وأسفرت النتيجة عن نجاح خمسة أفراد، ولم أكن من ضمن الناجحين، لم يكن الترشيح فى هذه الانتخابات من اهتماماتى، فالعمل الفكرى هو الذى يحركنى دائما، بينما لا يستهوينى العمل الحركى، لكن حدث ما لم يكن فى الحسبان.
بعد انتهاء عملية الفرز وإعلان من هم الذين سيمثلون الإخوان فى هذه الانتخابات همس عاطف عواد فى أذنى: أريد أن أجلس معك.
لم أعرف سبب العصبية التى كانت تغلف عبارات عاطف، إلا أننا جلسنا فى سيارتى أسفل مكتب جمال تاج، أخرج عاطف ورقة مطوية من جيبه وقال: حدث اليوم شىء مؤسف.
قلت له مستفسرا: خير، ما الذى حدث؟
فتح عاطف الورقة التى كانت معه وقال: شىء مذهل لم أكن أتوقعه.
قلت: هات ما عندك.
عاطف: وفقا للنتيجة الرسمية نجح مأمون ميسر وجمال تاج وصلاح سالم ومصطفى زهران وسيد عبد العزيز.
أنا: أعرف! ثم ماذا؟
عاطف: اسمع هذه القصة، كنا فى شرق القاهرة قد أجمعنا أمرنا على انتخابك عن الكبار، وسيد عبد العزيز عن الشباب، وبالفعل معظمنا صوّت لك.
قلت: هذا الأمر لا يهمنى.
عاطف: اسمعنى الله يخليك، الأمر على درجة كبيرة من الخطورة.
أنا مستغربا: أكمل إذن ما تريد قوله.
عاطف: عندما أعلنوا النتيجة لم نجد اسمك من ضمن الناجحين، فأثار هذا الأمر استغرابى وفضولى، فدلفت أنا وممدوح أحمد إلى الغرفة التى قاموا فيها بتجميع الأصوات، وكان من حسن الحظ أن عثرنا على الورقة التى تم تدوين النتيجة فيها.
أنا مستفهما: وماذا وجدتما؟
عاطف: النتيجة المعلنة مزورة يا صديقى! جماعة الإخوان ارتكبت جريمة تزوير لتمرير شخص تريده بالذات!
أنا متشككا: مزورة! إخواننا يزورون الانتخابات.
قدم لى عاطف الورقة التى كانت معه، وقال: انظر فى هذه الورقة.
أمسكت الورقة التى قدمها لى عاطف بيد مرتعشة، وأنا لا أكاد أصدق عينى.
الحلقة الخامسة السبت القادم
الخامسة
لماذا أكتب؟ أكتب كما قال نزار قبانى: كى أفجر الأشياء، فالكتابة انفجار، كى ينتصر الضوء على العتمة، فالكتابة انتصار، حتى أنقذ العالم من أضراس هولاكو، ومن حكم الميليشيات، ومن جنون قائد العصابة، حتى أنقذ الكلمة من محاكم التفتيش، من شمشمة الكلاب، من مشانق الرقابة، أكتب كما قال الأديب التركى أورهان باموك «أحد أشهر من فازوا بجائزة نوبل فى الآداب»: أكتب لأننى لا أستطيع أن أتحمل الحقيقة وحدى، ولأننى عزمت على مقاومة هذه الحقيقة.
غامت الدنيا أمام نظرى وأنا أرى النتيجة الحقيقية، كنت حاصلا على أعلى الأصوات، ولم يكن أحد الذين أعلن الإخوان نجاحهم ناجحا، ورغم ذلك تبدلت النتيجة، ما أقسى أن يكون الواعظ لصا، وأن يكون الكذاب داعية، كان التزوير الذى اكتشفه عاطف عواد مذهلا لى،
1993 عام عودة النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين.. بالثوب المخيف
كنا نجلس فى السيارة أسفل مكتب جمال تاج الدين، إلا أننى شعرت كأننى انفصلت عن الدنيا وما فيها وجلست فوق سحابة من الأفكار، لا أشعر بمن يجلس بجوارى، ولا أسمع ما يقول، تزاحمت الأفكار فى رأسى وعادت ذاكرتى إلى الوراء خطوة، تذكرت واقعة فجة حدثت قبل أن تُجرى عملية الانتخابات الداخلية التى اكتشف عاطف عواد تزويرها، كنت قد اصطحبت صديقا لى يُدعى عبد الهادى الأنصارى إلى النقابة العامة للمحامين قبل شهرين، وحين صعدنا إلى الدور العلوى للنقابة وجدت اشتباكا لفظيا قائما بين مختار نوح وأحد المحامين من الإخوان المسلمين، كان هذا المحامى مسؤولا عن منطقة من مناطق القاهرة وكان من المقربين من الحاج مصطفى مشهور، كانت العصبية والخشونة تحيط بكلمات هذا الأخ.
الأخ المنفعل: شف يا مختار اعتبر أننى خارج أى تصويت داخل الجماعة، سأكون فى قائمة المرشحين لفرعية القاهرة سواء انتخبنى قسم المحامين أم لم ينتخبنى.
مختار: يا أخى الذى سيحكمنا هو اللائحة، أهلا بك فى القائمة إذا انتخبك القسم، أما إذا لم ينتخبك فلا وجود لك، المسألة مش عافية.
الأخ المنفعل: المسألة عافية، وأنا قادر على إيقاف أى تصويت يستبعدنى، بالبلدى أنا فيها أو أخفيها.
ربتُّ على كتف عبد الهادى الأنصارى وأخذته بعيدا عن المعركة الكلامية، فسألنى:
إيه الحكاية؟! ما سبب هذه المشادة؟
قلت بامتعاض: المسألة كما ترى، أنت تعرف هذا الأخ حق المعرفة، هو يريد أن يكون مرشحا للإخوان فى انتخابات نقابة القاهرة الفرعية.
الأنصارى: وما المشكلة فى ذلك؟
أنا: المشكلة أن هناك لائحة داخلية تحكمنا، واللائحة توجب أن تتم انتخابات داخلية أولا نختار فيها من سيكون مرشحا عن الإخوان، وهذا الأخ يريد أن نتجاوز بخصوصه اللائحة، يريد أن يكون أعلى من أى اختيارات داخلية، يريد أن يكون مرشحا سواء صوتنا له أم لم نصوت.
تلاشت صورة عبد الهادى الأنصارى من خيالى حين هز عاطف عواد كتفى قائلا: إنت فين؟ بكلمك وانت ولا كأنك هنا!
قلت له وأنا أضع على وجهى ابتسامة ساخرة: كنت فى دنيا أخرى، ماذا كنت تقول؟
عاطف: كنت أقول إن هذه ليست أول مرة فى التزوير، وما خفى كان أعظم.
أنا: تقصد أحمد سيف الإسلام حسن البنا؟
عاطف: هوّ بعينه.
أنا: ولكن واقعة سيف الإسلام لا تعتبر تزويرا أنا أضعها فى خانة خوض الانتخابات بالإكراه رغم أنف الجميع.
عاطف: التزوير له صور متعددة يا صديقى، سيف الإسلام خاض انتخابات نقابة المحامين دون إرادة محامى الإخوان، فى التصويت الداخلى لم يحصل إلا على صوته هو فقط، صوت واحد! رسب رسوبا كبيرا! ولعلك تذكر أن أحدا لم يكن يريده، بل كنا نجهل أنه يعمل بالمحاماة أصلا.
أنا: بل لم يمارس المحاماة حقيقة، نعم هو مقيد فى جدول المحامين ولكنه لم يعمل بالمحاماة.
عاطف عواد: ومع ذلك فرضه الحاج مصطفى مشهور علينا بالإكراه مع سبق الإصرار والترصد.
قلت ساخرا: نعم قال لنا رأيكم لا قيمة له، ولوائحكم تلزمكم ولا تلزم الجماعة، وسيف الإسلام هو ابن حسن البنا وسيكون مرشحا فى النقابة العامة وافقتم أو رفضتم.
عاطف عواد: هل تذكر كيف اعترضنا عليه؟ وكيف غضبنا على إلغاء إرادتنا، حتى أننى ومعى خالد بدوى كنا فى قمة الثورة من فرضه بالقوة.
أنا: يا عم عاطف، ثوروا، انفعلوا، لكن الرأى لم يكن رأينا، والقرار لم يكن قرارنا.
عاطف: نعم صدقت، فها هو يجلس فى نقابة المحامين، يرتكب فيها جرائم سياسية، ويبرم اتفاقات سرية مع خصوم الإخوان، ويستخدم موقعه كأمين عام للنقابة فى تعويق كل المشاريع التى نقدمها لخدمة المحامين!
أنا: لعنة الله على الانتخابات وتبعاتها، إنهم يقودون الجماعة بعيدا عن دورها الحقيقى فى الدعوة، والله يا عاطف إن النفس تمج هذه الألاعيب التى لا تتناسب مع وقار الجماعة.
عاطف عواد: أنا لن أسكت، سأقلبها على رؤوسهم، هؤلاء ليسوا الإخوان المسلمين، ولكنهم «الإخوان المزورون».
أنا: إبعدنى يا عاطف عما ستفعل، أنا أصلا لم يرد فى بالى أن أكون مرشحا، تعرف أننى أحب إدارة الانتخابات لا خوضها. بعد أيام من هذه الواقعة كانت الدنيا قد تغيرت قليلا، ففى أثناء سفر مختار نوح ومعه مجموعة من قسم المحامين إلى الإسكندرية فى القطار، ثار عاطف عواد على مختار، وتحدث عن التزوير الذى حدث، وحينما عادوا من الإسكندرية اجتمعوا ولم أكن معهم، وحلا منهم للمشكلة التى حدثت والتزوير الذى افتضح أمره قرروا تعديل النتيجة وإعلان سقوط «الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور» ونجاحى بدلا منه.
وفى اليوم التالى لهذا القرار مباشرة صدر قرار من مكتب الإرشاد بزيادة عدد المرشحين للنقابة الفرعية بالقاهرة إلى ستة أفراد بدلا من خمسة، على أن يكون الأخ الساقط «التابع للحاج مصطفى مشهور» من ضمن أفراد قائمة المرشحين! لم أفهم إصرار مكتب الإرشاد على هذا الأخ رغم قلة إمكانياته، ووقع فى ذهنى أن الولاء عندهم مقدم على الكفاءة، وفى ما بعد عرفت أن عام 1993 هو العام الذى شهد عودة النظام الخاص للجماعة، ذلك النظام الذى ما زال معظم الإخوان يجهلون وجوده وتحكمه فى مصير الجماعة، وقد كان هذا الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور أحد أفراد النظام الخاص الجديد، فى ثوبه المخيف، ثوب الأخطبوط.
1993 يعلن عن نفسه، يقول: أنا عام ما بعد الزلزال، أنا عام توابع الزلزال، أنا العام الذى سيتسرب منه بصيص ضوء خافت، ولكن من سيصل إليه هذا البصيص لن ينتبه له، سيظن أنه لا شىء، ولكن بعد سنوات سيدرك أن جزءا من السر الغامض كان تحت يديه، الآن بعد هذه السنوات أرانى كيوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، لم يدرك الحقيقة إلا بعد أن تجاوز مكان «كشف الحقيقة» خرج سيدنا موسى مع الفتى «يوشع» قاصدين مجمع البحرين فى رحلة بحثهما عن العبد الصالح رجل الحقيقة، يحملان سمكة فى سلة، انطلقا بحثا عن هذا الرجل، واتجها إلى المكان المحدد حتى إذا وصلا إليه وجدا صخرة كبيرة مستوية، وكانا قد أحسّا بالتعب، فوضعا رأسيهما، وغرقا فى نوم عميق. وهناك انسلّ الحوت (السمكة) من السلة، واتخذ سبيله فى البحر سربا.. حدث هذا الأمر المعجزة وهما نائمان، فكان أمرا عجبا إذ كانت السمكة مشوية، ثم انطلقا بعد ذلك سائريْن بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح الصباح، وأسفر وجه النهار قال موسى عليه السلام لفتاه: «آتنا غداءَنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَبا»، نظر فتاه فى السلة فلم يجد الحوت -فقال له: «أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيتُ الحوت»، قال له موسى عليه السلام: فذلك ما كنا نبغيه، إذ إننا سنلتقى الرجل الذى وُعدنا به فى المكان الذى نفقد فيه الحوت، سنلتقى بالحقيقة.. وشتان بين العبد الصالح رجل الحقيقة، والعبد الإخوانى رجل الأسرار، وما كان فى ظنى وقتها أبدا أن يكون الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد هو المؤتمن على خزينة أسرار الإخوان الباطنية، ولكنه كان هو.
كانت مصر تعيش شهور ما بعد الزلزال، ويبدو أن الزلزال ترك بصمته على كل شىء فى مصر، عندما توالت الخلافات فى النقابة العامة للمحامين بين أحمد سيف الإسلام حسن البنا ومختار نوح، حتى وصلت الأمور إلى حد لا يطاق، فقررت أن أفعل شيئا، اتفقت مع عاطف عواد على زيارة الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد كى يساعدنا بما له من حظوة فى الجماعة على وضع حد للخلافات التى كادت أن توقف العمل فى نقابة المحامين، وفى معمل التحاليل الطبية الذى يمتلكه محمود عزت فى «عمارة الميريلاند» بمصر الجديدة جلسنا نتحدث، وبعد أن سردنا له طرفا من المشكلات والمعوقات التى تسبب فيها أحمد سيف الإسلام حسن البنا فى أنشطة الإخوان المسلمين بالنقابة، طلب منا الرجل أن نخرج معا لنتحدث بحرية خارج معمله، فى الطريق العام! ونزلنا بالفعل من مقر معمله إلى حديقة الميريلاند، وأخذنا نتجول حولها ونحن نتحدث.
قال محمود عزت بعد فترة صمت صاحبته مذ خرجنا من معمله: كلنا طبعا يعلم طبيعة شخصية سيف الإسلام، ونعرف أنه سيثير المشكلات، ولكن سيف لن يبقى فى النقابة كثيرا، نحن أردنا من نزوله فى الانتخابات استثمار شعبيته ليس إلا، والده حسن البنا صنع لنفسه شعبية غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، فاقت شعبيته جمال عبد الناصر وغاندى، لا يوجد أحد فى العالم إلا وهو يعرف من هو حسن البنا، ولعلك يا أخى ثروت قرأت مذكرات الشهيد سيد قطب رحمه الله، تلك المذكرات التى قال فيها إنه حينما كان فى أمريكا وعرف بخبر مقتل حسن البنا وجد أن كل من كانوا فى المستشفى التى دخلها للاستشفاء من مرض صدره أبدوا سعادتهم لمقتله.
أنا: قرأت هذا فى كتاب الأستاذ محمود عبد الحليم «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ».
استرسل محمود عزت قائلا: اسم حسن البنا كان كفيلا بفوز قائمة الإخوان، يكفى أنه والد الشخص الذى وضعناه على رأس القائمة.
- نحن نستثمر اسم حسن البنا.
- إعادة طرح اسم حسن البنا بقوة هى الوسيلة التى ستضمن لنا «التمكين» دون أن نكون غصة فى حلق المجتمع.
- لا يهمنا النقابة عندكم أو أى نقابة أخرى فكلها وسائل، والوسائل تقدر بقدرها.
- فلتفشل نقابة المحامين أو تذهب فى داهية، ولكن المهم أن ننجح فى تنفيذ فكرتنا.
وقبل أن يسترسل مرة أخرى قاطعه عاطف عواد بحماسته المعهودة: نحن أبناء حسن البنا نؤمن بأفكاره ولكننا لسنا أبناء سيف الإسلام حسن البنا، والأخ سيف تعددت أخطاؤه، وسيكون عبئا على الجماعة.
محمود عزت: نحن شعب لا ينظر إلى الأخطاء ولكنه يهتم بالأسماء، انسوا هذه الخلافات، وينبغى أن يكون اهتمامكم بمنطقتكم أعلى من اهتمامكم بقسم المهنيين، فالمناطق الإخوانية هى الأصل، وطريقنا إلى التمكين ما زال طويلا.
ثم أضاف: يا أخ عاطف لا تقل أبدا إننا أبناء حسن البنا أو إننا نؤمن بأفكاره، ولكن قل إننا أبناء جماعة الإخوان، نؤمن بأفكارها، يا أخ عاطف لكل زمن رجال، والرجال يتغيرون ويموتون، ولكن الجماعة لن تموت أبدا.
- كانت بداية الجماعة مع حسن البنا ثم مات، واستمرت الجماعة حية، ثم دخلها سيد قطب، ومات، واستمرت الجماعة حية، ثم دخل إلى الجماعة رجال عظماء سينساهم التاريخ، وسيعتبرهم العلمانيون خارجين عن الإسلام، ولكن خلايا الجماعة لم تتجدد إلا بهم.
- ثقوا أننا أهل الحقيقة وما نأخذه من قرارات إنما يكون أبعد نظرا مما تتخيلون.
لم يستطع عقلى ولا عقل عاطف عواد وقتها أن يستكشف بواطن كلمات محمود عزت، ألقيت أمامنا كلمة سر الجماعة ولكن استغراقنا فى مشكلة نقابة المحامين حجب عنا بصيص الضوء، وبعد سنوات من هذا الحوار، وحينما خرجتُ من الجماعة، أخذتُ أبحث عن كنز الإخوان المخبوء، ما هو سرها الذى تخفيه عن الدنيا؟ وحين عدت إلى كثير من الأحداث التى رافقت رحلتى، تذكرت كلمات محمود عزت، فوضعتها فى ترتيبها المنطقى، فإذا بكلمة السر تقفز أمام عينى.
داخل عنابر سجن طرة عام 1966 جلس الشاب الغريب الغامض أبيض الوجه غائر العينين صاحب الشعر الأسود المفروق من المنتصف يستمع إلى الشيخ الأزهرى على إسماعيل، وهو يشرح الآية الكريمة من سورة الجن (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) كان درس الشيخ على إسماعيل مؤثرا بليغا، بعدها انكب الشاب على دراسة فقه المعصية، استهوته أفكار الخوارج، فقد كانت الآيات التى قرأ تفسير الخوارج لها تدل على أن مرتكب المعصية الذى لا يتوب سيخلد فى النار أبدا، وها هى إحدى الآيات التى تتحدث عن الربا، أخذ الشاب يقرأ الآية على مهل «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان» أخذ الشاب يسترسل فى القراءة إلى أن وصل إلى قوله «ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون». الفكرة الآن فى طريقها للاستواء فى ذهن الشاب الغامض، المسلم إذا أقرض مسلما بالربا فإنه سيخلد فى النار، إذن المعصية تؤدى إلى الخلود فى النار! وليس الكفر فقط، ذُهل الشاب وهو يقرأ لأحد الخوارج تفسيره لآيات الميراث، نهاية الآية واضحة أيضا، يقرأ الشاب قول الله «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» حسنٌُ حسن، من يلتزم بحدود الله سيدخل جنات الله، إذن ما هو موقف من يعص الله ورسوله، الآية تقول «يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين». وحتى يستقيم الأمر فى ذهن الشاب الغامض أخذ يقرأ التفاسير المشهورة فلم يقتنع بما ورد فيها من أن الخلود فى النار هنا إنما يكون لمن عصى الله معصية كفر، أى إنما تكون لمن أنكر آيات الله كفرا بها وكفرا بالله، فالمسلم لا يخلد فى النار من معصية، عاد الشاب الغامض إلى تفسير أستاذه سيد قطب «فى ظلال القرآن» نظر على وجه الخصوص إلى تفسيره فى شأن آيات المواريث، فوجد أن سيد قطب يُكّفر المسلم الذى يرتكب معصية، وكأن الشاب الغامض قال وقتها «وجدتها وجدتها» وأظنه قفز فرحا من مكانه، وبعد أن حفظ ما قاله سيد قطب عن ظهر قلب أغمض عينيه فى هدوء فقد أخذ الكرى يداعب أجفانه ولم تقوَ الفرحة على مقاومة النوم، فنام، ولكن مصر فى يوم ما لن تعرف للنوم طريقا، فقد بدأ الشاب الغامض فى طريق لن يكون له منتهى.
الحلقة السادسة الإثنين القادم
الحلقة السادسة
ثروت الخرباوى يكتب: الشاطر والعريان يتفاوضان «باسم الإخوان» مع أمريكا منذ 2005August 6th, 2012 12:33 pm
كارتر فى زيارته للمرشد العام
وكأننى أركب آلة الزمن.. أُحلِّق فى سماءٍ لا نهاية لها.. أعيش فى بُعدٍ كونىّ وزمانىّ آخر أو أعيش فى «لا زمن» أنظر من مكان مرتفع إلى الأحداث التى مرت بى وأنا فى الإخوان، لا، ليس وأنا فى الإخوان فقط، بل إن نظرتى فى لحظات صوفية فريدة قلما تمر على قلبى تكون أوسع مدى من ذلك، أرى آدم وحواء عليهما السلام وهما يعيشان فى جنة فريدة لا تتصورها الأخيلة ولكن تستشرفها القلوب والأفئدة، يمرحان بُحرِّية لا قيد عليها، يجريان بين الأشجار، يصعدان فوق المرتفعات التى اكتست بخضرة لا مثيل لها فى حياتنا الدنيا، يُسَبِّحان لله فى جنة لا زمن فيها، ولا شمس تؤذيهما، وإنما نور فى نور حوله نور، تسبيحهما نور ولهوهما نور وثيابهما نور والطعام الذى يأكلانه نور فيخرج منهما نور، لا يشعران فيها بنصبٍ ولا جوع ولا عطش.
أمريكا طلبت من الإخوان الحوار مع الحزب الوطنى والتنسيق معه مقابل الضغط من أجل تأسيس حزب للجماعة
سبحان الله الذى خلق أبانا آدم بيده فجعله كاملا واصطفاه على الخلائق، ليس له أن يجوع ولا يعرى، فجنة الله التى خلقها لآدم وزوجه هُيئت لمن خلقه الله بلا نقص فى الجِبلَّة والطبائع البشرية، ونهاه أن يأكل من الشجرة المحرمة، لم تكن هذه الشجرة من أصل الأشجار التى فى جنة آدم ولكنها كانت من أشجار الحياة الدنيا، وحين أغراه الشيطان ووسوس إليه أن يأكل من هذه الشجرة مُطمِّعا إياه بالخلد، مَالَ آدم إلى تلك الثمرة التى على الشجرة المحرَّمة، وكان أنْ أكل منها هو وأُمُّنا حواء، فردهما الله إلى نقص الطبائع، فسقطت عنهما نورانية الجنة، ودخلت عليهما الدنيا فانخلع عنهما رداء النور فبدت لهما سوءاتهما، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة، وانسحب منهما نور طعام الجنة الذى كانا لا يشبعان منه مهما أكلا، ولا يجوعان أبدا إذا لم يأكلا، وبعد أن عصى آدمُ ربَّه، تلقى منه كلمات فتاب عليه، ولكنه فقد الهيئة النورانية التى كان عليها، فكان لا بد أن يهبط هو وزوجه إلى الدنيا، ومن بعد ظل لكل ولد من بنى آدم شجرة محرمة، عليه ألا يأكل من ثمرها، هى شجرة المحرمات التى فيها اعتداء على النورانية وانغماس فى الطينية، كشجرة السرقة والزنى والخمر والقتل، وكذلك جعل الله للحكومات والأنظمة شجرة عليهم أن لا يأكلوا من ثمرها، هى شجرة الظلم والطغيان والاستبداد، وما كان على الحكومات والأنظمة كان على الجماعات والتجمعات الإنسانية، وكان كذلك على الأفراد.
■ ■ ■
كان الأخ مختار نوح قد تعرف على الدكتور سعد الدين إبراهيم ودار بينهما حوار طويل، كان بعضه يتم من خلف نافذة الزنزانة، سأله نوح: لماذا اهتم العالم بقضيتك يا دكتور سعد وأنت الذى صدر الحكم ضدك من محكمة مدنية! ولا يهتم بقضايا الإخوان الذين يحاكَمون أمام المحاكم العسكرية؟!
رد عليه الدكتور سعد الدين إبراهيم: هذا شىء طبيعى، ضَعْ فى الاعتبار الأحداث الساخنة التى حدثت فى العالم من إسلاميين متطرفين.
قال له نوح: ولكن الإخوان ليست جماعة متطرفة!
سعد الدين إبراهيم: العالم لا يعرف ذلك لأنه لا يراكم لأنكم تعملون فى الخفاء، الجزء الأكبر من فكركم وثقافتكم مختزن فى باطنكم، ثم إن العالم يدافع عنى لأنه يعتبرنى صاحب رؤية ومشارك معه فى قيم إنسانية عالمية، بالإضافة إلى أننى أحترم الآخر.
نوح: ولكن الإخوان مثلك يشاركون فى تلك القيم الإنسانية، فكيف نوصل وجهة نظرنا للغرب؟
سعد الدين إبراهيم: أضعف الإيمان هو الكلمة وأقواه هو الفعل.
نوح: أما الكلمة فنمتلكها الآن ولكن الفعل لن يكون إلا بعد أن نخرج من السجن.
■ ■ ■
فى ضُحى أحد أيام عام 2003 حملتنا إلى حى المعادى سيارة الأستاذ خالد بدوى المحامى والداعية الإخوانى الرقيق الذى كان محبوسا مع نوح وبديع فى قضية النقابيين، كنا ثلاثة لا رابع لنا، مختار نوح وخالد بدوى وأنا، وكانت وجهتنا هى بيت الدكتور سعد الدين إبراهيم الذى كان قد خرج من السجن منذ بضعة أشهر، وفى السيارة ظل الكلام مستمرا بيننا بلا توقف وكأننا جوعَى كلام، فمن ناحية تحدثنا عن الحوارات التى دارت بينهم والدكتور سعد فى السجن بالتفصيل، ومن ناحية أخرى تحدثنا فى شؤون عامة وخاصة، وكان من ذلك أن عاتبنى الأخ مختار نوح على إهمال مكتبى لقضية مدنية كنت أباشرها لأحد الإخوة الكبار من أصحاب الفضل والعلم والقيمة هو الدكتور زكريا عبد الحكم أستاذ الطب النفسى والذى كان نقيبا لى فى فترة من فترات وجودى فى الإخوان، وكانت قضية هذا الأخ قد تعرضت لإهمال فى مكتبى فى الفترة التى انشغلت فيها بكل قوتى بنصرة الدكتور بديع وإخوانه فى قضية النقابيين، وقد وافقت نوح على عتابه، وظلت الحوارات مستمرة إلى أن توقفت السيارة أمام منزل الدكتور سعد الدين إبراهيم.
استقبلَنا الرجل خير استقبال وتصادف أن كان عنده وقتها بعض الزملاء المحامين المنشغلين بحقوق الإنسان، أذكر منهم الأساتذة أحمد عبد الحفيظ ونجاد البرعى وفاطمة ربيع، وحين انفردنا بالدكتور هنأناه بسلامة الخروج من السجن، وتذكروا معا ما كان يدور بينهم من حوارات أهمها ما يتعلق برغبة الإخوان فى التقرب من الغرب، ومن الحوار عرفت أن الدكتور عصام العريان الإخوانى الشهير حين كان فى السجن فتح هو الآخر حوارا مع الدكتور سعد بهدف التقارب مع أمريكا على وجه الخصوص وأن الدكتور سعد وعده بأن يبذل جهده فى هذا الأمر.
ظل حوارنا مع الدكتور سعد فى بيته ضاغطا على قلبى لسنوات، فمن ناحية كنت ألتمس لمختار نوح المبرر وهو يفتح هذا الباب، فقد كانت الجماعة مضطهدة محبوسة دائما، وكان نوح من ضحايا الأحكام العسكرية، ومن شأن المضطهَد المحبوس الذى يمارس عليه الحاكم استبدادا وطغيانا أن يبحث عن منافذ يحصل منها على قدر من حريته، ومن ناحية أخرى رأيت، خصوصا مع تطور الأحداث فى المنطقة، أن الإخوان كتنظيم له أهدافه، وفكرته، سيسعون إلى استخدام هذه المنافذ لا ليبحثوا عن حريتهم ولكن ليصلوا إلى حكم البلاد، فيكون التنظيم الحديدى الذى يطوى داخله أسرارا لا يعلم عنها أحد شيئا قد وصل إلى الحكم لا بالاستقواء بالشعب ولكن بالاستقواء بأمريكا، وقد رأيت أن الحوار من الممكن أن يبدؤه من حَسُنت نياتهم ثم يستكمله أصحاب الأسرار الخفية.
تعود ذاكرتى إلى ذلك اليوم البعيد الذى ذهبتُ فيه مع عدد صغير من شباب الإخوان إلى مدينة طنطا، كان يصاحبنا أخ فاضل اسمه محمد السيد هجرس، كان مقربا من نفسى إذ رأيته من أصحاب القلوب النقية التقية توفاه الله بعد هذه الواقعة بسنوات، وفى اليوم الذى حطّت فيه أقدامنا مدينة طنطا ذهب بنا محمد هجرس، عليه رحمة الله، إلى الحاج لاشين أبو شنب عضو مكتب إرشاد الجماعة، والذى كان من القيادات التاريخية للإخوان المسلمين، ما زالت هيئة محمد هجرس ماثلة فى ذهنى وهو يحمل ابنه الصغير إسلام الذى لم يكن قد تجاوز الثالثة من عمره، وفى جلستنا مع الحاج لاشين أفاض الرجل فى الحديث عن تاريخ الجماعة وعن حسن البنا، ما زلت أذكر الكلمات الأخيرة التى قالها، لم أنس منها حرفا: الجماعة قامت على فكرة، والفكرة تظل نظرية طالما أنها فى الكتب، فإن أراد لها أصحابها أن تصبح واقعا فلا بد أن تساندها قوة.
عقّبت على قوله ببيت شعر للشابّى هو «لا رأى للحق الضعيف ولا صدى ** الرأى رأى القاهر الغلاب».
قال الحاج: عليك نور، هذا استدلال فى موضعه، لذلك فإن دعوتنا لن تنتصر إلا إذا أخذنا بأسباب القوة.
قال أحد الإخوة: بهذه المناسبة، ما رأىْ فضيلتك فى استعانة العراق فى حربها مع إيران بأمريكا، وها هى أمريكا تنقلب على العراق وتضربها بقوة بعد غزوها للكويت؟
رد الشيخ: يجوز الاستعانة بكافر فى سبيل الوصول للحق، فالرسول صلى الله عليه وسلم استعان بكافر ليدلّه على الأثر وهو فى هجرته إلى المدينة، أما غزو العراق للكويت فهو خطأ على العراق أن تتحمل تبعاته.
■ ■ ■
ظللت ألملم أوراقى وأفكارى وأنا أغذ السير إلى كهف الأسرار الذى به «صندوق سر الجماعة» الرهيب، فبعد جلستنا مع الدكتور سعد الدين إبراهيم تغيرت الدنيا وحدثت أمور، وسبحان الله الحى الذى لا يموت، كل يوم هو فى شأن، له أمور يبديها ولا يبتديها، يغيِّر ولا يتغير، فمن كان فى قلب الجماعة أصبح خارجها ومن كان بشوشا أصبح عبوسا، ومن كان يحبك أصبح يبغضك، ومع ذلك فقد رأيت الفصل الثانى من علاقة الإخوان بأمريكا وكان ذلك فى شتاء الأيام الأخيرة من عام 2005.
«هو» أحد أعضاء مكتب الإرشاد من الإخوة الكبار أصحاب التاريخ، وما زال عضوا بالمكتب حتى تاريخ كتابة هذه الكلمات، وكانت صلة قد نشأت بينى وبينه من خلال قضية لأحد أقاربه أسندها إلىّ حين كنت فى الجماعة، وقد وفقنى الله فى القضية فزاد ذلك من أواصر المعرفة والتوادّ بيننا، وكنت بحكم العشم قد تحدثت معه كثيرا عن مخاوفى من أن تنقلب الجماعة إلى وجهة أخرى لم تكن فى حسبان من أنشؤوا الإخوان، وكانت كلماته تطمئننى حين يقول «إن أصحاب الفكر الدخيل على الجماعة لن يفلحوا فى مسعاهم» ولكننى كنت أجده فاتر الهمة لا يواجه من أطلقنا عليهم «القطبيين» بقوة، وكأنه سَلَّم لهم واستسلم لأحلامهم، وفى أحد الأيام الأخيرة من عام 2005 ذهبتُ إليه فى بيته بناء على موعد مضروب بيننا، وفى هذا اليوم رأيته مختلفا عن السابق، كان ثائرا مهتاج المشاعر ساخطا، وبعد عبارات الترحيب ابتدرنى قائلا: الجماعة بدأت تسير فى هذه الأيام ناحية طريق خطير.
تعجبت قائلا: كيف؟
هو: علاقتنا بأمريكا أخذت فى التطور، بيننا الآن مراسلات واتفاقات.
أنا: هذا شىء طيب فى رأيى، فأنتم فى أمَسّ الحاجة إلى من يخفف عنكم الضغوط الأمنية التى تمارَس عليكم.
هو: ولكن الاتفاقات تتجه ناحية تيسير طريقنا نحو الحكم، أمريكا ترغب فى أشياء تريدها منا ونحن نريد منها أشياء، وما تريده منا يخالف الثوابت التى دافعنا عنها لسنوات.
أنا: ومن منكم يتفاوض مع أمريكا؟
هو: خيرت الشاطر وعصام العريان وأحيانا يكون هناك أشخاص بعينهم يقومون بمهام محددة.
أنا: وكيف تسكت عن هذا الأمر؟ وكيف يسكت أيضا الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح والدكتور محمد حبيب؟!
هو: هذه المعلومات متكتَّم عليها جدا حتى إنها لا تصل إلينا ولا نناقشها فى مكتب الإرشاد وإنما يقوم بها الشاطر من وراء ظهورنا، وقد وصلت إلىّ من خلال بعضهم رسالة كانت مرسلة من أحد الإخوان المسؤولين فى أمريكا إلى خيرت الشاطر بها بعض المعلومات الخطيرة، هم يطلقون على خيرت «BIG» أى الرئيس والكبير أو الهام، لذلك الخطاب موجَّه إلى «B».
أنا: تعرف يا افندم، أنا باعتبر أمريكا هى الشجرة المحرَّمة بالنسبة إلى الإخوان.
هو: بمعنى؟
أنا: بمعنى أنها إمبراطورة الشر فى العالم، شيطان البشر، تبحث عن الثمرات التى فى العالم لتلتهمها، أما ثمرتها هى فشديدة المرارة، تجعل من يأخذها يجوع ويعْرَى، وتنكشف سوأته، أمريكا إمبراطورية ظالمة طاغية مستبدة، أمريكا هى شجرة الظلم، وشجرة الظلم محرمة علينا جميعا، لذلك إذا أراد الإخوان الاقتراب منها وقطف ثمرتها بالشكل الذى يفعلونه فسيفقدون نور دعوتهم وخيرية مقاصدهم، سيدنا آدم يا دكتور عندما أكل من الشجرة المحرمة سأله الله: لِمَ فعلت؟ فقال: كنت أبحث عن الخلود، فقال الله له كما جاء فى الأثر «طلبت الخلود من غيرى ولم تطلبه منى» ونحن الآن نطلب الحكم لا من الله سبحانه ثم من الشعب المصرى ولكن من شجرة أمريكا الظالمة.
وحين أنهيت الجلسة أخذت منه الخطاب وتحدثنا فى أمور شتى ثم انصرفت إلى حال سبيلى، وفى بيتى فى جوف الليل أخذت أقرأ الخطاب الذى كان كارثيا.
■ ■ ■
Dear B
السلام عليكم ورحمة الله.
تحياتى وأشواقى لجميع الإخوة، أما بعد.
كانت الجهود التى بذلها دكتور برونلى أثرا طيبا فى تقريب وجهات النظر إلى حد كبير إلا أنه ما زالت بعض الاختلافات فى وجهات النظر، وقد ظهر لى أن مستر إيرلى متعنت إلا أننى أوضحت للأصدقاء الآتى:
1- لن نغير خريطة المنطقة السياسية.
2- نتعهد بالحفاظ على كل المعاهدات والاتفاقيات (أبدى الأصدقاء سعادتهم بتصريحات المرشد عن إسرائيل وقالوا عنه «He is a respectable man»).
3- نقبل وجود إسرائيل بالمنطقة (وقالوا إنه ينبغى ألا ننظر إلى إسرائيل كما تنظر الحكومة إلينا فلا هى محظورة ولا نحن محظورون).
4- أوضحت لهم إصرارنا على أن تقوم الإدارة الأمريكية بدعم التحول الديمقراطى بالمنطقة وقد ظهر لهم من نتائج المرحلة الأولى أننا أصحاب الرصيد الجماهيرى.
وقد أوضح الأصدقاء:
1- سعادتهم بجرأتنا فى تناول قضية الحوار مع أمريكا وأن التناول كان واقعيا إلا أنهم أبدوا استياءهم من مسألة أن الحوار ينبغى أن يتم عبر وزارة الخارجية المصرية وقالوا إننا ينبغى أن نتخلص من هذه النغمة.
2- أوصوا بطرح مسألة الحوار مع أمريكا على أوسع نطاق حتى تصبح أمرا واقعيا، وقتها لن يبحث الناس عن شرعية الحوار ولكنهم سيبحثون عن نتائج الحوار.
3- يجب أن يقدم الإخوان الحزب وأن يكون هذا فى خلال عام وسيمارس الأصدقاء ضغوطا على الحكومة للموافقة عليه.
4- تدعيم الحوار مع الحزب الوطنى والتنسيق معه فى القضايا الكلية ولا مانع من الاختلاف فى الفرعيات.
5- ضرورة الحفاظ على الكيان الحاكم وعدم خلخلته دستوريا أو شعبيا وعدم المساعدة فى أى تجمع يسعى إلى إحداث خلخلة للنظام.
وينتظر الأصدقاء سفر د.العريان إلى بيروت فى النصف الأول من ديسمبر لإكمال الحوار وإن لم يتم سيحضر إليكم صحفى أمريكى سيقدم نفسه تحت اسم «جون تروتر» بوكالة «s.o.m» مطلوب أن يجلس مع الشاطر وعزت.
حامل الخطاب الأخ حسان وهو من السودان.
أرجو عدم الثقة بأى شخص من «c a t r»
والسلام عليكم ورحمة الله
أخوكم
H.a
قرأت الخطاب أكثر من مرة إلا أننى وقفت كثيرا عند الجُمل التى تفيد أن الإخوان يستعينون بأمريكا من أجل الوصول للحكم، وهنا قفزَتْ إلى ذاكرتى العبارات التى قالها الحاج لاشين أبو شنب قبل سنوات طويلة.
وبعد عامين من قصة هذا الخطاب أدلى عصام العريان بتصريح لجريدة «الحياة اللندنية» قال فيه: إن الإخوان إنْ وصلوا للحكم سيعترفون بإسرائيل وسيلتزمون باتفاقيات السلام معها، قال العريان نفس الكلام الذى كان مطلوبا منه والذى تلقى التعليمات بشأنه من الخطاب المجهول الذى وصل للإخوان من شخصية إخوانية مجهولة تعمل فى الخفاء مع الإدارة الأمريكية.
الآن علىَّ أن أبحث عن أمرين، وسأصل من خلالهما إلى صندوق الأسرار.
الحلقة السابعة الأربعاء المقبل
الاخيرة
مصطفى منصور وأحمد سيف الإسلام حسن البنا وبعض قيادات الإخوان
صوت واهن ضعيف تتماوج فيه الأنفاس المتقطعة التى تدل على أن صاحبها شيخ كبير.
- آلو السلام عليكم.
ـ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ـ أنا أخ لك فى الله أكلمك من الكويت، ولعلك لا تعرفنى، ولكننى بحثت عن هاتفك فترة طويلة حتى أخذته من الأخ الدكتور كمال حبيب، وقد حاولت الاتصال بك كثيرا، لكننى كنت أجد هاتفك مغلقا.
ـ يا مرحبا بك، لكن هلا تعارفنا؟
ـ أبى كان يحب الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك أطلق علىّ اسم محمد فأنا محمد، وكان أبى عليه رحمة الله يحب الخلفاء العباسيين ولذلك قصة، فأنا المأمون، واسمى من الأسماء المركبة لذلك فأنا «محمد المأمون»، أما لقب العائلة فهو المحرزى، فأنا محمد المأمون المحرزى، وأنا من أهل محافظة قنا، ولقد حصلت على الدكتوراه فى التربية، وأعيش فى الكويت منذ سنين طويلة.
ـ يا مرحبا بك يا دكتور أعرفك طبعا، فأنت من جيل الرواد فى الإخوان.
ـ قرأت لك كثيرا، وأحب أن أجلس معك عندما تسمح لنا الأقدار.
مترقبا ومستفسرا: على الرحب والسعة يا سيدى، لكن هلا أخبرتنى عن الموضوع الذى تريدنى لأجله.
صديق السنانيرى: عندما فرض الحاج مصطفى مشهور سيطرته على الجماعة تغيّرت وانقلبت إلى وجه قبيح لا نعرفه
المحرزى: إدارة الجماعة كاذبة مخادعة فاشلة تكفيرية.. تشكل فى ما بينها جماعة «الإخوان الكذابون»
الدكتور المحرزى: أنا يا بنى عشت عمرى كله مع الإخوان، آمنت بدعوتهم ونافحت عنهم وتوليت العديد من المسؤوليات الخطيرة فى التنظيم، كان كمال السنانيرى، رحمه الله، من المقربين لقلبى، وكذا عصام الشربينى عليه رحمة الله، فريد عبد الخالق هو أستاذى وكمال الهلباوى من أكرم من عرفت من الإخوان، لكن عندما فرض الحاج مصطفى مشهور سيطرته على الجماعة تغيرت وانقلبت إلى وجه آخر، وجه قبيح لا نعرفه، الجماعة الموجودة الآن ليست هى جماعة الإخوان المسلمين، والحقيقة يا أخ ثروت أنا لا أعرف كيف يصبر الإخوان على الإدارة التى تديرهم، إنها إدارة كاذبة مخادعة فاشلة تكفيرية، أضاعت الإخوان يوم أن ولغت فى السياسة، جريمة أن تستمر هذه الإدارة فى مكانها، لقد رأيتهم وهم يتحدثون فى التليفزيون فرأيت الكذب يقفز منهم قفزا، إى وربى إنهم يكذبون كما يتنفسون، والمأساة يا أخى أنهم يعرفون أننا نعرف كذبهم، لكنهم لا يأبهون، هذه الإدارة تشكل فى ما بينها جماعة «الإخوان الكذابون».
طالت المكالمة الهاتفية، ثم تواعدنا على لقاء، واتفقنا على ندوة يكون موضوعها «ضرورة أن يتحول التنظيم إلى تيار»، لكن ذهنى سرح مع حديث الأخ الكبير محمد المأمون المحرزى، لماذا يكذب الإخوان؟ لماذا يقولون ما لا يفعلون؟ تخرج من أفواههم الوعود ثم تتلاشى وعودهم وتتبدد كما يتبدد الظلام أمام ضوء النهار، ثم تخرج ماكينة التبريرات بالمبررات التى دعتهم إلى النكول عن وعودهم! هل هم جماعة من المنافقين؟ أم أنهم ينظرون لنا نظرة أخرى لا ندرك معانيها؟ ما الأحوال التى يجوز الكذب فيها، والتى أيضا يجوز فيها النكول عن تنفيذ الوعود؟ أبحث فى الفقه فأجد إجابات تكشف جزءًا من الحقيقة، لا يجوز أن يكذب المسلم إلا فى ثلاث حالات، منها «الكذب فى الحرب»، بل إن الكذب على الكفار لا يجوز إلا إذا كنا نحاربهم، آن ذلك يجوز والحرب خدعة، فإذا كانت هذه هى إجابة الفقه فأين إجابة الإخوان؟
أتنقل بين الأزمنة لكشف الحقيقة المستترة، أبحث عن ذلك الشيطان الكامن فى نفوس الناس يبحث عن طريقة لغوايتهم، والشيطان كالكلب ما أن يرى إناءً حتى يلغ فيه، فإذا لم تُطهر إناءك من النجاسة يحرم عليك الوضوء منه، هل ولغ الشيطان فى إناء الجماعة فأفقدها طهرها؟! يخيل إلىَّ أحيانا أن بينى وبين الحقيقة آمادا، وأظن أحيانا أخرى أن الحقيقة شاخصة أمامى، تحتاج فقط أن أستبصرها.
أزمنة الحقيقة كثيرة، لكنها تجمعت فى جعبتى، وأنا جالس فى زمنى هذا، وفى مكتبى المزدحم بالأوراق والكتب والوقائع التى تنتظرنى أن أكتبها، أذهب إلى عام 1992 وأحداثه، ثم أغادره إلى عامى 1995، 1996 بأيامهم الرهيبة ومحاكمهم العسكرية، ثم عام 1999 المزعج المؤلم وما بعده، ثم أنطلق فى أزمنة ما بعد عام 2003 حتى وقت جلوسى وحدى فى مكتبى أراجع أوراقى وأخط كلماتى، وفجأة أجدنى عدت إلى بداية إنشاء الجماعة فأصطحب حسن البنا وهو ينشأ جماعته، ثم آخذ نفسى لعام 1965 ومأساته، تلك المأساة التى أخرجت لنا من جوف أنفاق مظلمة موغلة فى التطرف فكرا يشبه دراكولا مصاص الدماء، فكرا لا يعيش إلا فى الظلام، فإذا خرج عليه الصبح اختفى فنظن أنه ذهب وانقضى فإذا به قد اختبأ فى كهوف معتمة ينتظر لحظة سانحة يجن فيها الليل ليغرس أنيابه فى قلوب غضة طرية فيحولها إلى قطعة حجر لا تتغذى إلا بالدماء، ويا لهول تلك الأنياب المتعطشة للدماء، فكل من غرس دراكولا أنيابه فى قلبه يتحول هو الآخر إلى دراكولا، ولا ينهزم دراكولا الظلام إلا بالتوحيد، نهزمه بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم «قل لا إله إلا الله ثم استقم».
وكما أتنقل بين الأزمنة أتنقل بين الأمكنة، فأذهب إلى الجزيرة العربية، فأشاهد الحلم الذى تحول إلى واقع، حلم دولة آل سعود، وكيف فكر رجل من أهل مصر فى استنساخ هذا الحلم، ليكون هو الخليفة المنتظر وإمام المسلمين، ومن السعودية أذهب لليمن، تلك الدولة التى كان لها أكبر الأثر فى التوجه الجديد لجماعة الإخوان، اليمن هى الحلم، اليمن هى المبتغى.
وأعود إلى زمن عام 2003 محمولا على البساط السحرى، فأجدنى جالسا مع الأستاذ أحمد أبو غالى فى بيته بمصر الجديدة نتحدث، أسأله فيستفيض أحيانا ويوجز أحيانا، يستخدم عبارات صريحة معظم الوقت إلا أنه يستخدم الرموز فى أوقات أخرى، ها هو الشيخ يجلس متكئا على أريكة عريضة مربعا قدميه ناظرا إلى كوب الشاى الذى بيده:
جدى طنطاوى جوهرى رحمه الله كان لا يحب المشكلات، ويكره العنف، إلا أنه كان جريئا فى الحق الذى يعتقده، يمارس ما يعتقده بكل قوة، ورغم ذلك كانت له اهتمامات جرَّت عليه العديد من المشكلات ومنها اهتمامه بتحضير الأرواح، وكان حسن البنا يناقشه فى هذا الأمر منكرا عليه ذلك، وقد سجل جدى فى مذكراته أنه قال للبنا حينما جادله فى تحضير الأرواح: «قل الروح من أمر ربى»، ثم قال له «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا»، فيقول له البنا هذه عليك لا لك، فالروح من أمر الله فكيف تعلمها والله يقول وما أوتيتم من العلم إلا قليلا، فرد جدى: لم ينف الله عنا العلم بالكلية، لكنه قال وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
ثم استطرد الأستاذ: كان الشيخ طنطاوى جوهرى مهتما بعلم الأرواح، وكان مشهورا فى هذا الأمر، وأيضا التنويم المغناطيسى، وقد كتب كتابا عن الروح، وتجده فى تفسيره لسورة الإسراء أطال كثيرا فى شرح أحوال الروح.
ـ وهل أنت معه فى أفكاره؟
ـ لا أظن أننى أتفق معه فى كل ما كتبه فأنا أحمل رأيا عن الروح، ومعنى أن الروح من أمر ربى، وقد لا يتفق قولى مع كثير من المفسرين، لكننى أقول: إن هذا رأيى، ولا أقول إن هذا هو الحق.
ـ زدنى علما يا أستاذ.
ـ إذن انتبه واسمع بقلبك قبل أن تسمع بأذنك، فهذا العلم من العلوم التى يجب أن تتهيأ القلوب والأفئدة لسماعها، فإذا شردت فإن ذنبك على جنبك، لقد جعل الله سبحانه وتعالى الكون كله يا بُنى محصورا فى عالمين اثنين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى (ألا له الخلق والأمر) فعبَّر الله سبحانه عن عالم الدنيا أو عن ذلك العالم الذى يُدرك بالحواس الظاهرة بقوله «الخلق» وعبَّر عن «عالم الآخرة» وهو ما يدرك بالحواس الباطنة بقوله «الأمر»، فعالم الخلق الذى هو الحياة الدنيا خُلق ليفنى، فالجبال (ينسفها ربى نسفا)، والأرض والجبال كذلك (فَدُكتا دَكة واحدة)، و(كلا إِذا دُكتِ الأرضُ دكا دكا)، (وإذا النجوم طمست)، وصولا إلى (يوم نطوى السماء كطى السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين)، هذا هو عالم الخلق، عالم الفناء، أما عالم الأمر فهو عالم الأمور العظيمة فى الكون، تلك الأمور التى خلقها الله تعالى للبقاء لا للفناء، ومنها الروح والقلم واللوح والعرش والكرسى والجنة والنار، ويُسمى عالم الأمر أمرا لأن الله سبحانه وتعالى أوجده بأمر «كن» من لا شىء بلا واسطة شىء، كقوله (خلقتك من قبل ولم تك شيئا)، وسمى عالم الخلق خلقا، لأن الله الخالق أوجده بالوسائط من شىء كقوله (أولم ينظروا فى ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شىء)، هذه الوسائط كلها خلقها الله من «شىء» مخلوق، لذلك فإنه سماها خلقا، فهو مثلا (خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار)، وقال سبحانه (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين)، وقال (سبحان الذى خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون)، وكذلك نحن نخلق أشياءً فى حياتنا الدنيا لنسخرها لمصلحتنا، ونحن لا نـَخلِق من العدم، لكن نـَخلِق من شىء مخلوق، لذلك يقول الله سبحانه وتعالى (تبارك الله أحسن الخالقين)، ولما كانت الوسائط التى أوجدها الله فى الكون مخلوقة من شىء مخلوق لذلك هى مخلوقة للفناء.
ثم أكمل الأستاذ: وما (قل الروح من أمر ربى) إلا ليخبرنا الله سبحانه أن الروح من عالم الأمر والخلود والبقاء أبدعها الله من غير مادة فهى بهذه المثابة ليست من عالم الخلق والفناء، ولذلك فإن «من أمر ربى»، ليست لرفع العلم عنا، أو إخبارنا أن علم الروح مبهم علينا، وأنه ليس لنا أن نعرف الروح أو نعرف حقيقتها وكنهها وكيفيتها، حتى أن البعض تمادى فى فهمه هذا ووقع فى خطأ حين قال إن الرسول لم يكن عالما أو عارفا بعلم الروح وذلك ظنا منهم أن قوله (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) عائدة على الرسول وعلى كل البشر، ذلك أنها كانت فى هذه الجزئية فقط عائدة على جماعة اليهود الذين سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح.
استمتعت بحديث الشيخ أيما استمتاع خصوصا أنه كان مسترسلا منطلقا، وكأن الذى ينطق هو قلبه، وليس لسانه.
سألته: يقولون إن البنا استكمل تفسير القرآن الكريم الذى كان الشيخ رشيد رضا قد كتبه، ولم يستكمله، فهل كان البنا عالما من علماء التفسير؟
قال الشيخ بابتسامته السمحاء: كون أن الأستاذ البنا استكمل تفسير المنار فهذا أمر لا أعرفه، لكن الذى أعلمه أن الشيخ رشيد رضا كان يكتب تفسير المنار من واقع دروس التفسير التى كان يلقيها الشيخ محمد عبده، أما مسألة أن البنا كان من علماء التفسير فهذا أمر لا يقدم ولا يؤخر، لأن كل علومنا ناقصة، كما أنه لا يوجد شىء اسمه تفسير القرآن الكريم، فلو كان هناك تفسير لكان من الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كتبه المفسرون هو مجرد فهمهم لآيات القرآن، وفهمهم هذا يرد عليه الخطأ والصواب، القرآن يا ثروت لا تنفد عجائبه، وطالما أن الله جعله لكل الأجيال إلى أن تقوم الساعة لذلك لا ينبغى أن يقول أحد إننى أنا فقط الذى فهمته وفسرته على النحو الذى أراده رب العالمين، لكنها فقط مجرد خواطر ورؤى حول آيات القرآن الكريم ومعرفة لمعانى الكلمات وصولا إلى بحث الأفهام عن المعانى، ولأن الأفهام نسبية فإن ما ستراه سيكون نسبيا بدوره.
ـ ولكن هل لمحت فى فكر البنا نوازع للتكفير؟
ـ أصدقك القول، ما تسمى الحركة الإسلامية تحتاج إلى إعادة صياغة من جديد، محتاجة أن تبدأ، وكأنها لم تكن من قبل، لكن عليها أن تجعل من رصيدها القديم وسيلة لتطويرها، فكل من أنشؤوا حركات أطلقوا عليها حركات إسلامية هم من التكفيريين بقدر أو بآخر، يضيق التكفير عند البعض ويتسع عند البعض الآخر، وحسن البنا لديه نوازع للتكفير لا ريب فى هذا حتى ولو قال غير ذلك فى أدبياته، لكن التكفير يقفز فى وجوهنا من رسائله فى أحيان كثيرة.
ـ كيف هذا؟
ـ ألم تقرأ رسالة التعاليم؟
ـ قرأتها.
ـ إذن تعرف أنه قال فى البند الخامس والعشرين من الرسالة وهو يوجه تعليماته للإخوان وما يجب أن يفعلوه فى حياتهم «أن تقاطع المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامى، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التى تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة».
العجيب أننى قرأتها ولم أنتبه لمعانيها!
ـ لم يكن إذن سيد قطب هو أول من ابتدع جاهلية المجتمع والانعزال عنه، ولم يكن شكرى مصطفى منتجا لأفكار خاصة به وهو يدعو إلى هجرة المجتمع الكافر الذى يحكم بغير ما أنزل الله، لكنه استمد بعض أفكاره من رسالة التعاليم هذه، وستجد فى التعليمة رقم 37 أيضا «أن تتخلى عن صلتك بأى هيئة أو جماعة لا يكون الاتصال بها فى مصلحة فكرتك خصوصا إذا أمرت بذلك»، هذه يا بُنى لمحات تكفيرية واضحة الدلالة وستجد فى فكر البنا أشياءً كثيرة لن تجد لها إلا تفسيرا واحدا.
- هى أن فكر التكفير كان مختبئا فى ضمير البنا لم تظهر منه إلا بعض فلتات.
- لذلك كانت للاغتيالات التى قام بها النظام الخاص تبريرات شرعية عند الإخوان.
- يا لها من مفاجأة، داخل حسن البنا الداعية الوسطى المعتدل حسن بنا آخر لا نعرفه، هو حسن البنا التكفيرى الصغير.
·
الأحتفال بعيد الميلاد - تصوير محمد أوشة (1)
- كان حسن البنا من الذين يضعون الخطط ويرتبون لتنفيذها على آجال وأزمنة، لذلك فإنه منذ أن أنشأ جماعته وكان قد استقر من أول لحظة فى عمر الجماعة على ضرورة إنشاء جيش مسلم يذب عن الدعوة ويناصر الفكرة.
- كانت دولة آل سعود شاخصة فى ذهن حسن البنا، وكان يعتبرها الدولة «البروفة» لدولة الخلافة الإسلامية التى كان يرى نفسه من خلالها خليفة المسلمين.
ومن فرط المعلومات المذهلة التى تدفق بها الأستاذ أحمد إبراهيم، سألته ذات يوم: كيف لك أن تعرف كل هذه الأخبار وتقف عند كل هذه الأفكار؟
فقال وهو يبتسم: أنا حفيد الشيخ طنطاوى جوهرى أحد عباقرة المسلمين من الذين اعتمد عليهم حسن البنا فى إنشاء جماعته فقد كان خالا لأمى، وكنت تلميذا لسيد قطب، وصديقا لشكرى مصطفى.
انتابتنى لحظة سكون، رأيت فيها بخيالى صورة الشيخ طنطاوى جوهرى صاحب المؤلفات الدينية والعلمية وتفسيره الفريد «الجواهر» للقرآن الكريم، وكتبه التى كاد أن يحصل بموجبها على جائزة نوبل، إلا أن المنية وافته قبل أن ينالها، ورأيت صورة سيد قطب الذى تحدثت بذكره الركبان، ثم استقرت فى ذهنى صورة شكرى مصطفى بوجهه البيضاوى وشعره الذى تعود على أن يفرقه من المنتصف ونظرات عينيه العميقة الغائرة ولحيته الكثة، نظرت إلى الأستاذ أحمد إبراهيم ثم قلت له: شكرى مصطفى مؤسس «التكفير والهجرة»!
رد قائلا: اسم جماعته الحقيقى هو جماعة المسلمين.
قلت: وما صلة شكرى مصطفى بالإخوان؟
وعلى غير ما كنت أتوقع سكت الأستاذ ولم يرد.
■ ■ ■
كان سر الإخوان غامضا لهذه الدرجة! فى الحقيقة لا، فقد كان تحت عينى طول الوقت، ولكننى لم أرَه، فالإنسان لا يرى ما لا يحب، فإذا رأى ممن يحبهم ما لا يحبه بحث لهم وله عن تبرير يستقيم مع حسن ظنه وتفسير أقرب لفكرته وعاطفته، والحقيقة أننى كنت أستطيع الوصول إلى سر الإخوان المفزع منذ السنوات الأولى لى فى الإخوان، ولكننى للأسف لم أضع يدى على صندوق الأسرار حينها.
ورغم أننى لم أدخل إلى كهف أسرار الجماعة وأفتح صندوقها السرى وأضع يدى على جواهرها المُخفاة إلا فى عام 2008 فإن خيوط بعض هذه الأسرار كانت قد بدأت تتجمع فى يدى قبل هذا التاريخ، كان بعضها قد وقع تحت يدى عام 1999، إلا أننى بحثت عن تأويل له يتفق مع حسن ظنى بالجماعة، ثم وقع البعض الآخر تحت يدى عام 2002 وما بعدها بقليل، إلى أن وقف علمى عند حد معين كتبت عنه ودللت عليه، وكان معظم مَن ينتقدون الإخوان يدورون حول الفكرة التى طرحتها وكشفت عنها وهى أن التنظيم القطبى سيطر على مقادير الجماعة وجعل من أفكار سيد قطب دستورًا فكريًّا للإخوان، ولكن عندما عرفت الحقيقة أدركت أن الأمر كان أخطر من ذلك بكثير.
وأنا أرتب أوراقى وأفكارى حتى أمتثل للأمر الذى استلهمته من حشاشات ضميرى «أن أكتب»، اكتب لتعطى أفكارك الحياة، اكتب لتميط اللثام عن السر المظلم الذى يضعونه فى مغارات معتمة، اكتب لتختلف عن الذين كتبوا ليتفقوا وهم يعلمون أن اتفاقهم نقمة، وليكن اختلافك رحمة، حينها عدت بذاكرتى إلى شهر نوفمبر من عام 1995، ذلك الشهر الذى أعادنى إليه أحمد ربيع ونحن نتحاور فى مكتبه، كان هذا الشهر بالنسبة إلىّ كئيبا موجعا مزعجا، فدفعة ثانية من قيادات الإخوان تم القبض عليها، وها هى نيابة أمن الدولة تبدأ التحقيق معهم، تذكرتنى واسترجعت مشاعرى حين كنت مع الإخوة فى نيابة أمن الدولة بمصر الجديدة لأحضر معهم التحقيقات وأدافع عنهم قدر جهدى، كنت أحمل فى قلبى هموما لا قبل لى بتحملها، فلقد عشت عمرى أرى أن أفدح الظلم أن يُحبس أصحاب الرأى والفكر، فالأفكار تولد لتنطلق فى السماء الرحيب بأجنحة كالطير يجنح نحو الأفق.
كنتُ قد خرجت من غرفة التحقيق التى جرت فيها وقائع التحقيق مع الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، فوجدت الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد يقف فى الردهة بجوار إحدى غرف التحقيق ويقف معه مختار نوح وأحمد ربيع وعاطف عواد، كان الدكتور محمود عزت هو أحد المقبوض عليهم وكانت التهمة التى توجه إلى الجميع هى الانتماء إلى تنظيم مخالف للقانون، وكانت التهمة الموجهة إلى الدكتور محمود عزت والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح هى إنشاء هذا التنظيم، وهو الأمر الذى يترتب عليه صدور عقوبة مشددة ضدهما، ذهبت إلى المجموعة التى كانت تقف مع محمود عزت فوجدتهم يتأهبون للذهاب إلى إحدى حجرات الموظفين ليقيموا صلاة المغرب فانضممت إليهم وانضمّ إلينا عدد كبير من المتهمين والمحامين، أمَّنا محمود عزت فى الصلاة وبعد الصلاة ألقى درسا قصيرا عن الثبات واليقين أننا على الحق وأن الله ناصر دعوته وغالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والله مُتِمّ نوره ولو كره الكافرون، كنت أعرف أن الآية الكريمة «والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون» من الآيات التى تجرى على ألسنة الإخوان كثيرا، ولكننى لم أستسغ سماع آيات عن الكفر والكفار فى موضع الخلاف السياسى، لذلك قفزت فى ذهنى علامات استفهام عن الآية الكريمة «والله متم نوره ولو كره الكافرون»، هل هنا مجال تطبيقها؟! وبعد أن قام المحامون والمتهمون إلى شؤونهم استبقيت محمود عزت وأشرت إلى عاطف عواد وأحمد ربيع بعدم القيام، ثم سألت محمود عزت: نريد أن نعرف منك سبب هذه الحملة الأمنية على الإخوان.
ظل محمود عزت صامتًا، حتى إننى ظننت أنه لم يسمع السؤال، ثم قال بعد فترة وكأنه يقدح زناد فكره: هل تعرفون أن ما يحدث فى هذه الأيام يعتبر نزهة جميلة بالنسبة إلى ما كان يحدث لنا ونحن فى سجون عبد الناصر؟ لم تكن هناك تحقيقات مثل هذه ولا محامون، ولا أى شىء آدمى، وحين دخلنا الزنازين أول مرة كنا نشرب الماء الذى قام حراس السجن برشه فى الزنازين، كنا نشرب كما تشرب الحيوانات وكانوا يتعمدون ذلك لإذلالنا، أتعرفون لماذا كانوا يفعلون ذلك؟ لأنهم تلقوا الأوامر بهذا من الكافر جمال عبد الناصر، أو تعرفون لماذا فعل بنا عبد الناصر هذا؟ لأنه تلقى الأمر بذلك من أسياده الملحدين فى روسيا، أصدر عبد الناصر أوامره بالقبض علينا من موسكو طاعة منه للكفرة، والآن تلقى مبارك أوامره من أسياده فى أمريكا فأصدر أوامره بالقبض علينا، روسيا الملحدة فى الستينيات، وأمريكا الكافرة فى التسعينيات.
قطع عاطف عواد استرساله: ولماذا ترغب أمريكا فى القضاء على الإخوان؟ أمريكا توافق على نشاط الإخوان عندها.
نظر إليه محمود عزت كأنه يعاتبه: أمريكا هى الطاغوت الأكبر فى العالم وهى لا تريد للإسلام أن يرتفع شأنه، أمريكا تعلم أننا لو حكمنا سنقضى على إسرائيل ثم سنتجه صوبها ونقضى على قيادتها للعالم، الإخوان يا أخ عاطف سيقيمون دولة الإسلام ثم سيحصلون لهذه الدولة على أستاذية العالم، وأمريكا تعلم ذلك لذلك هى تحرض علينا نظامنا الكافر.
استفهم منه أحمد ربيع: ولكن كيف سنقيم دولة الإسلام ونحن فى قمة الاستضعاف لا توجد خطة لدينا.
رد محمود عزت: لهذا يتم القبض علينا.
تعجبت من الإجابة فقلت له: يتم القبض علينا لأنه لا توجد خطة لدينا!
محمود عزت: لا، ولكن لأنه توجد خطة لدينا.
أحمد ربيع: وهل يعرفون خطتنا؟!
محمود عزت: يحاولون الوصول إليها ولكنهم لن يصلوا.
أحمد ربيع: هل خيار القوة هو خطتنا؟
محمود عزت: الأفكار التى لا تساندها قوة تموت.
تدخلت فى الحديث: وما القوة التى تساندنا؟
محمود عزت: هذا سؤال لا يسأله أحد، ولكن القوة التى تساندنا هى قوة ذاتية، يعنى مننا فينا، جواهر قوتنا تحت أيدينا.
ختم أحمد ربيع قائلا: واللبيب بالإشارة يفهم.
■ ■ ■
ظلت عبارة محمود عزت «القوة التى تساندنا قوة ذاتية» عالقة فى ذاكرتى لا ترغب فى التلاشى، ما معنى قوة ذاتية، وماذا يقصد بـ(مننا فينا)».
والفكر يجلب بعضه، والخيوط تتشابك وتلتقى، فقبل أعوام قليلة من حوارنا مع محمود عزت وحين كنت من إخوان «منطقة الزيتون» حضرت كتيبة إخوانية فى بيت أحد الإخوة المسؤولين فى المنطقة، وكان بيته فى شارع اسمه «الليث بن سعد» المتفرع من شارع طومانباى.
كان المحاضر هو الدكتور جمال عبد الهادى أستاذ التاريخ الإسلامى، وهو أحد الدعاة الكبار فى الإخوان، وكان له عديد من الدروس يلقيها فى أحد المساجد بمنطقة الأميرية القريبة من الزيتون، والحق أن الدكتور جمال عبد الهادى رجل مفعم بالمشاعر الإيمانية الفياضة حتى إنه كثيرًا ما كان يبكى فى أثناء درسه، وهو من الرجال الذين يأخذون أنفسهم بالشدة فى العبادة، ولم يحدث أن طلب دنيا أو مغنما بل كان مخلصا لفكرته مدافعا عنها، إلا أن قلب الإنسان غير عقله وفكره، فمن الممكن أن يجذبك أحدهم بنقاء سريرته ونبل عاطفته ويصدمك بطريقة تفكيره.
فى تلك الكتيبة الإخوانية قال الدكتور جمال عدة أفكار كانت صادمة بالنسبة إلىّ، وكنت قد دوَّنت هذه المحاضرة فى مفكرتى، وكان مما قاله الشيخ.
- لا نستطيع أن نتهم شخصا بعينه بالكفر، فلا يجوز إطلاق القول بالكفر إلا بأن يثبت بالدليل الشرعى، ومن ثَم لا يجوز تكفير الأعيان «أى الأشخاص» إلا إذا ثبت ذلك من خلال قول أو فعل.
- ولكننا نستطيع تكفير الحكومات والأنظمة، ويثبت كفرها إذا امتنعت عن تحكيم شرع الله وهى تعلم وجوب هذا التحكيم، ويثبت علمها بالوجوب إذا أنذرها أهل العلم والفقه، ونظرا لأننا أنذرنا حكوماتنا وأخذنا عليهم الحجة فتكون الحكومات المصرية كافرة كفرا يخرجها من الملة.
وفى نهاية المحاضرة، قلت له: يا فضيلة الشيخ لقد أشكل علىَّ شىء مما قلته فهل من إيضاح؟
فرد بسماحته: تفضل يا أخى؟
قلت: كيف تكفر الحكومة ولا يكفر الحاكم، فالحكومة هى شىء معنوى، اعتبارى، والأشياء الاعتبارية لا تكفر ولا تؤمن، ولكن الأشخاص الذين يديرونها هم الذين كذلك، أنا أرى أننا لا يمكن أن نقول إن دولة كذا هى دولة كافرة، ولكننا نقولها من باب المجاز، إنما نقصد أن معظم شعبها على الكفر وأن أفراد حكومتها على الكفر، وكذلك لو قلنا إن الحكومة كافرة لأنها تتحاكم إلى الطاغوت ولا تحكم بما أنزل الله فإن هذا مجاز، إنما هنا نقصد أن بضعة أفراد عددهم معروف وأعيانهم معروفة قد كفروا بالله، وبذلك نكون قد حكمنا بكفر رفعت المحجوب لأنه هو ومجلس الشعب يُشرِّعون من دون الله، والقضاة الذين يحكمون بغير ما أنزل الله فهم أيضا كفار، والمحامون الذين يترافعون بالقوانين التى ما أنزل الله بها من سلطان هم أيضا كفار، فهل أنا بهذه المثابة كافر لأننى أعمل بالمحاماة؟
ضحك الجالسون فى الكتيبة من كلمتى الأخيرة وقال أحد الإخوة اسمه ياسر وهو يحوِّل الأمر إلى دعابة: معلهش يا مولانا، الطبع يحكم والأخ ثروت يعمل بالمحاماة «هو طبعا ماكانش بيسأل وبس إنما كان يترافع، وواضح أنه يخشى على مهنته».
قال الشيخ جمال عبد الهادى: الأمر يا أخى يحتمل الخلاف، والشيخ ابن باز قال: إن من يحكم بغير ما أنزل الله أو يتحاكم إليه وهو يعلم أن الذى أنزله الله أفضل من الذى يتحاكم إليه فهو كافر كفرا لا يخرجه من الملة، وأنا أرى أن الذى يتحاكم إلى غير ما أنزل الله مجبرا مضطرا لا خيار له فلا شىء عليه إن شاء الله، وإلا من يدافع عنا يا أخ ثروت، نحن نريدكم أنت والأخ مختار نوح والأخ جمال تاج وباقى الإخوة لتدافعوا عنا فى المحاكم.
ثم أكمل الشيخ: ولكن نصيحتى لكم أن تستعدوا ليوم التمكين، فى هذا اليوم يجب أن نكون جاهزين أصحاء أقوياء، فالمؤمن القوى خير عند الله من المؤمن الضعيف، ولقد عرفت من وقت قريب أن بعض الإخوة يقومون بعمل تدريبات رياضية، وليت هذه التدريبات تكون نواة لجيش مسلم، يقف فى مواجهة اليهود فى اليوم الموعود، كل منكم يجب أن يشترك فى هذه التدريبات.
رد أخ من الجالسين اسمه خالد عبد المطلب: وكيف نشترك؟
قال الشيخ: الحقيقة لا أعرف، اسألوا الدكتور محمود عزت فقد تكون عنده الإجابة.
يا لها من دنيا غريبة وعقول غريبة! أأسخر من نفسى أم أجعل نفسى تسخر منى؟ الموضوع كله يصلح أن يكتبه كاتب ساخر فى مسرحية ساخرة، لقد كنتُ أحد أفراد الجيش المسلم وكنت أتلقى تدريبات رياضية وأذهب إلى معسكرات، كنت فى الجيش المسلم دون أن أعلم.
الرئيس مرسى
بصدور حكم محكمة القضاء الإدارى بإحالة دعوى حل الهيئة التأسيسية إلى المحكمة الدستورية يكون عمر هذه الهيئة قد امتد بضعة أسابيع بعد أن كانت قد ماتت سريريا، وللحق فإن الهيئة التأسيسية للدستور قد ولدت فى ظروف سيئة، وما أن هلت للحياة حتى لفظت أنفاسها، ولم تنفع معها التحاليل ولا التنفس الصناعى فى شىء، ومع ذلك فلأننا فى عهد القداسة والمعجزات الدينية أصرت جماعة الإخوان على أن تقوم التأسيسية الميتة بأعمالها وسبحان من يحى الهيئات وهى رميم على ظن من أن الآية القرآنية (يخرج الحى من الميت) تنطبق على تأسيسية الدستور، وأنها لذلك يمكن أن تخرج لنا دستورًا حيًّا بما لا يخالف شرع الله، ومع ذلك فإن جنين الدستور قد خرج مشوهًا، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
فجعتنا المادة 196 من مسودة الدستور، ووجه الفجيعة أن هذه المادة هى بعينها المادة التى اعترض عليها الإخوان عندما وضعها على السلمى فى وثيقته، وخرجت مليونية إخوانية تحزق ويتمعر وجهها غضبا من السلمى الذى يريد بيع الوطن للعسكر ويجعلهم هم وحدهم أصحاب الحق فى مراقبة ميزانيتهم دون أى رقابة من أى مؤسسة رقابية تابعة للدولة، وقالت المليونية الإخوانية وقتئذ وهى تشخط فى السلمى: كيف تجعلون من العسكر دولة فوق الدولة؟ أيكونون وحدهم أصحاب الحق فى وضع التشريعات الخاصة بهم وتدرج ميزانيتهم كرقم واحد فى ميزانية الدولة دون أن نعمل رقابتنا عليهم، هذا لا يجوز وأيم الله! واندفع الوطنيون الأحرار وراء الإخوان فى غضبتهم الوطنية، وانتهى المشهد المسرحى والتهبت كفوف المصريين من التصفيق من فرط اندماجهم فى المشهد الدراماتيكى ورحم الله يوسف بك وهبى، وجاء المستشار الغريانى ربيب الإخوان وحبيب قلبهم ابن الشرقية محافظة الرئيس ليضع فى مسودة الدستور المادة 196 وهى ذات نص السلمى ويجعل من ميزانية الجيش أمرًا خاصًا بهم لا يطلع عليه أحد إلا هم وتدرج فى ميزانية الدولة «رقم واحد»، ولا يجوز إصدار أى قانون يتعلق بالقوات المسلحة إلا بعد أخذ رأيهم، وإذا بجمهور الإخوان يدافع عن هذه المادة وتلتهب كفوفهم من التصفيق لها فى مشهد دراماتيكى تاريخى قلما يحدث فى دولة واحدة وفى زمن واحد، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ولكن هل تم تقليص صلاحيات الرئيس كما يقولون لنا، هل الرئيس سيصبح دستوريا «واحد مننا» له ما لنا وعليه ما علينا؟ دستور الإخوان لا يقول لنا ذلك فما زال الرئيس هو رئيس كل شىء، وهو صاحب كل شىء، وهو الأعلى فى كل شىء، ينقصنا فقط أن نقول له «سبحانك»، فهو رئيس الدولة ورئيس السلطة التنفيذية، ليس له نائب، ولم يرد بالمسودة أى تفصيل لوظيفة نائب الرئيس، وهو الذى يسمى رئيس الوزراء ويكلفه بتشكيل الحكومة، وهو أيضا الذى يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها، ويلقى بيانًا حول السياسة العامة للدولة، ويدعو الناخبين للاستفتاء فى المسائل المهمة التى تتصل بمصالح الدولة، والنص فى هذه الحالة جاء على العموم بحيث يجيز لرئيس الجمهورية اللجوء إلى الاستفتاء فى كل كبيرة وصغيرة.
والرئيس هو الذى يعين الموظفين العسكريين ويعلن حالة الطوارئ، ويعلن الحرب، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو الذى يعفو عن العقوبة، وهو الذى يعين رئيس وقضاة المحكمة الدستورية، ورئيس محكمة النقض، كما أن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس الدفاع الوطنى، والرئيس بالمرة هو الذى يعين كل رؤساء الأجهزة الرقابية، وهو الذى يعين ربع أعضاء مجلس الشيوخ، هل انتابك الملل من كثرة اختصاصات الرئيس؟ تمهل يا عزيزى فلا يزال فى جعبة مسودة الدستور الكثير، فالرئيس طيب الله مقعده الوثير من حقه أن يحل البرلمان دون اللجوء إلى الاستفتاء وفقا للمادة 145 وهو -بالمناسبة- أمر تمناه مبارك وسعى إليه إلا أنه لم يجرؤ أو يتجاسر على ولوج طريقه! وأى عضو بالبرلمان من حقه أن يقدم استجوابًا لرئيس الوزراء أو لأى وزير، لكن ليس من حقه أن يقدم استجوابا للرئيس رغم أن هذا الرئيس السوبر جمع اختصاصات تنفيذية فشل فى جمع مثلها رؤساء مصر السابقين! ولكى يستريح من عناء العمل الشاق أهداه الدستور المزمع عضوية مجلس الشيوخ أبد الآبدين، فما أن يخرج الرئيس من الرئاسة حتى يتم تعيينه فى مجلس الحصانات ليحصل على حصانة أبدية تمنع تتبعه جنائيا أمام أى محكمة إذا ما كان قد ارتكب أى جريمة ما، ويظل الرئيس السابق يا ولداه عضوًا بمجلس الشيوخ حتى ولو أصيب بأمراض تعجزه عن العمل والتفكير والحركة، فيكفى أنه رجل بركة.
هذا هو الرئيس الإله الذى قمنا بثورة ضده، فإذا بالأخوة من الإخوان وعلى رأسهم مستشارهم حسام الغريانى قائد استقلال القضاء يعيدون لنا نسخة مبارك مرة أخرى، وكأنها النسخة المصرية المعتمدة التى لا يجوز الخروج عن دائرتها أبد الآبدين.
مسألة استقلال القضاء هذه أصابتنى بالأرق ذات يوم، فأخذت أضرب أخماسا لأسداس، هؤلاء الذين صدعونا طوال سنوات بالحديث عن استقلال القضاء هل كانوا يقصدون ما فهمناه؟ أم أننا قرأنا العنوان على نحو آخر بسبب ضعف أبصارنا والنظارات «الكباية» التى نرتديها، أغلب الظن أنهم كانوا يجاهدون من أجل «استغلال» القضاء، لكن العتب على النظر، وضعنا نقطة بجوار النقطة فتغير المعنى ولو حذفناها لكنا قد قرأنا الكلمة الصحيحة.
ومن المضحكات المبكيات أن المستشار الغريانى اجتهد ما وسعه الجهد فى مسودة الدستور ليضع المادة 66 التى تنص على أن (تصدر الأحكام وتنفذ باسم الشعب وامتناع الموظف العام المختص عن تنفيذها أو تعطيل تنفيذها جريمة يعاقب عليها القانون..)، فإذا جاز لنا أن نتحدث عن الغرائب فى عالم التشريع المصرى فلا بد أن يدخل المستشار الغريانى فى هذه الموسوعة الغرائبية، فهو قد تقلد موقعه بالمخالفة لحكم نهائى صادر من محكمة القضاء الإدارى، وقد امتنع الموظف العام المختص عن تنفيذ هذا الحكم فأصبح بذلك مرتكبًا لجريمة، ثم إذا بالغريانى المستشار يضع مادة تحظر الفعل الذى جعله رئيسًا للهيئة وتجعل صاحبه مجرمًا لأنه تعدى على حكم قضائى نهائى!
ما وضع السلطة القضائية فى مسودة الدستور؟! أخذت أفرك عينى حتى أرى الجهاد الدستورى للمستشار الغريانى قائد استقلال القضاء، فها هى قد جاءت له كما يقول أولاد البلد «على الطبطاب» هيئتك الدستورية يا غريانى وأنت رئيسها فلا تنسى أنـَّا قد لبسنا على يديك ثوب الآمال، هيا يا رجل أنت فى غمار المعركة، نريد منك تاج الاستقلال، لكن يا حسرتاه، أعطانا الرجل «السلطانية» كى تكون تاجًا للاستقلال، فالمسودة التى أنبتتها قريحة رجاله على كثرة عباراتها قد خلت من أى شىء ذى قيمة يتعلق بالقضاء والسلطة القضائية، مجرد عبارات عامة منقولة من دستور 1971 ثم سكتت المسودة سكوتا أبديا عن الهيئات القضائية وتنظيمها، فقط تحدثت عن مجلس الدولة فى مادة واحدة والمحكمة الدستورية فى أربع مواد، فإذا ما نظرنا إلى مواد المحكمة الدستورية نجدها وكأنها مواد انتقامية وتصفية حسابات، فالمادة 182 تنص على أن (المحكمة الدستورية العليا جهة قضائية مستقلة قائمة بذاتها، مقرها مدينة القاهرة وتختص دون غيرها بالفصل فى دستورية القوانين واللوائح دون الفصل فى الدعوى الموضوعية…) وعبارة دون الفصل فى الدعوى الموضوعية هذه تبين الروح الثأرية للإخوان، وهم يضعون مسودة الدستور، إذ إنهم وضعوا ما يتعلق بـ«الدعوى الموضوعية» على خلفية حكم حل البرلمان الصادر عن المحكمة الدستورية على وهم منهم أن هذا الحكم قضى فى موضوع الدعوى مع أنه لم يفعل، وهذا يدل على مدى تحصيلهم للقانون وفهمهم إياه، كما أن تقرير تلك العبارة فى النص هو مجرد تحصيل حاصل، لأن هذا الأمر من المبادئ المتفق عليها، والتى لم تحد عنها المحكمة الدستورية لو كانوا يفقهون.
ولأن المشرع الإخوانى الذى وضع هذه المسودة لم تكن لديه عقلية قانونية سليمة تنتهج منهجًا واحدًا، لذلك فإنه وضع فى بداية المادة مبدأ مهما هو أن المحكمة الدستورية مستقلة، ما شاء الله، هذا أمر عظيم يا سيد غريانى يا قائد الاستقلال، تربت يداك، لكن، وألف آه من لكن، راحت هذه المادة وجاءت المادة التى بعدها، وإذا باستقلال القضاء يلقى علينا السلام ويغادر الدستور تحية لرئيس الجمهورية الإله الذى جعله المستشار الغريانى صاحبا لحق تعيين رئيس المحكمة الدستورية وأعضائها فأفقدها بذلك استقلالها!
وحتى يمنع المشرع الإخوانى الدستورى المتحمس للاستقلال المحكمة الدستورية من أن تحمى أحكامها سلب منها ما كان منصوصًا عليه فى دستور 1971 من أن القانون يحدد الاختصاصات الأخرى للمحكمة، وقد وضح هذا التعمد عندما أوردت المسودة فى المادة 181 اختصاصات مجلس الدولة ثم نصت فى نهاية المادة على أن (… ويحدد القانون الاختصاصات الأخرى للمحكمة).
أما فى شأن المحكمة الدستورية فإنه جعل اختصاصها حصريا فى المواد التى أوردها بالمسودة، ولم يشر إلى حق القانون فى إضافة اختصاصات أخرى للمحكمة، كل هذا سببه أن المشرع الإخوانى «بتاع الاستقلال» أراد أن يسلب من المحكمة الدستورية حق تفسير أحكامها، والأمر بتنفيذها ونظر الإشكالات المتعلقة بالتنفيذ، ولعل هذا التغافل سببه المعركة التى حدثت بين الرئيس الإخوانى والمحكمة الدستورية المصرية والتى خرجت منها مؤسسة الرئاسة مثخنة بالجراح، فأرادت أن تنتقم لنفسها من خلال رجالها بالهيئة التأسيسية للدستور.
فإذا راودتنى نفسى أن أخرج من نطاق سلطات الرئيس والسلطة القضائية، وأن أضع أمامكم تشكيلة معتبرة من بعض النصوص الغرائبية التى وردت بمسودة الدستور، فستجدون الآتى: فى مسودة الدستور تاهت الأفكار من المستشار الغريانى وأصحابه فجعلوا محكمة النقض فى المادة 85 مختصة بالفصل فى طعون انتخابات البرلمان، هذا شىء عظيم، لكنهم بعد كام سطر وكام نص أنساهم الله ما خطته أيديهم فجعلوا المحكمة الإدارية العليا فى المادة 213 هى المختصة بنظر هذه الطعون!
وفى المسودة العجائبية للدستور خرجت علينا المادة 163 بقول فصل، فقد ذهبت إلى أنه لا يجوز لأى وزير أو لرئيس الوزراء أن يكون حاصلا على جنسية أجنبية بجوار الجنسية المصرية، عين العقل أيها المشرع الدستورى، لكن اسمح لى أن أعاتبك وأوجه إليك خطابا رومانسيا من عينة خطاب الرئيس مرسى لشيمون بيريز، فأقول لك أخى الحبيب وصديقى العظيم المشرع الدستورى، حضرتك ضيقتها قوى على الوزراء ورئيس الوزراء وأعضاء الحكومة، ثم بحبحتها شوية على صديقنا الحبيب رئيس الجمهورية، فلم تلزمه بشرط نقاء الجنسية، وبذلك يكون من حق الصديق الحبيب رئيس البلاد أن يكون مصريا وحاصلا على الجنسية الإسرائيلية فى آن واحد، وهى طبعا جنسية لا ضير فيها، فهى جنسية شيمون بيريز الصديق الحبيب للرئيس المصرى، أو لربما يكون حاصلا مع جنسيته المصرية على جنسية أمريكا الحبيبة التى أنفقت من مالها وفقا للمرشح الأمريكى رونى مليارات لكى يصبح الرئيس مرسى رئيسا علينا، حبيبى المستشار الغريانى أتقتير هنا وإسراف هناك؟!
ومن الغرائب التى حفلت بها المسودة والتى تدل على أن عقلية المشرع الدستورى الإخوانى هى فى المقام الأول عقلية لا تنتج إلا أضغاث الدساتير تلك المواد المتناقضة، فالمادة 179 الخاصة بالقوات المسلحة كانت شديدة الانضباط، فبها ونعمت، ومن شدة انضباطها حظرت هذه المادة على أى فرد، أو هيئة خذ بالك من هيئة هذه أو جهة أو جماعة إنشاء تشكيلات أو فرق أو تنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، قطعا نحن لا ولم ولن نعترض على هذه المادة، لكن مسودة الدستور ذات نفسه هى التى تعترض على هذا النص، بل وتضع نصًا مخالفًا له هو المادة 201 الخاصة بالشرطة، فهى تنص على أن (الشرطة هيئة «خذ بالك من هيئة هذه» وطنية مدنية نظامية… تتولى حفظ النظام والأمن… ) ولك أن تعلم أن هيئة الشرطة وإن كانت مدنية إلا أنها تقوم على أساس إنشاء فرق وتشكيلات وتنظيمات عسكرية أو شبه عسكرية، كالأمن المركزى ومكافحة الإرهاب مثلا، وهى أمور تخالف النص الخاص بالقوات المسلحة، السيد الأستاذ المشرع الدستورى هنا هو الذى يعارض نفسه لأنه من فرط تقواه يخفى ما كتبت يمينه فلا تعلم يسراه ماذا كتب!
لم يبق لى إلا أن أطالب بضرورة أن يقوم رئيس الهيئة التأسيسية للدستور إن كتب الله لها وله عمرا بتعيين متخصصين فى الدساتير مثل الدكتور العلامة إبراهيم درويش والاستغناء عن مجموعة بعينها من حلاقى الصحة الذين تم وضعهم على سبيل المجاملات فى هيئة لها قدرها، ومن باب النصيحة أطالب رئيس الجمهورية بأن يقوم بتعيين مستشارين قانونيين له، إذ من غير المناسب أن يظل موقع المستشار القانونى للرئيس شاغرًا حتى الآن.
ثروت الخرباوى
أجرى الحوار: محمد قنديل
قبل أسابيع نشر الكاتب والباحث ثروت الخرباوى سلسلة مقالات على صفحات «التحرير»، هى جزء من كتابه الجديد «سر المعبد»، والذى سيصدر خلال أيام. وبقدر ما حملته تلك المقالات من مفاجآت كشفت بعض الغموض الذى كان يكتنف كهنة معبد الإخوان المسلمين، بقدر ما فجرت مزيدًا من التساؤلات التى قد تستكمل الإجابة عنها بعض الأجزاء الناقصة من صورة الجماعة التى باتت تحكم مصر، بينما الطلاسم والألغاز لا تزال تحيطها.
فى السطور التالية حاولنا أن نبحث مع الخرباوى عن طريقة لفك شفرة معبد الإخوان عبر طرح مزيد من علامات الاستفهام والقراءة المتعمقة فى ما لدى ذاكرة الخرباوى من قصص وحكايات ومعلومات.
■ إذا عدنا إلى الجزء الأول من كتابك «قلب الإخوان»، والذى أشرت إليه فى أول مقالاتك نجدك تتحدث عما أسميته «المرشد السرى للجماعة»، فما الفرق بين المرشد السرى والمرشد العلنى؟ وما طبيعة دور كل منهما، ومن هو ذلك المرشد السرى وكيف يتم اختياره؟
- كنت أعنى به ذلك الشخص الذى تولى مسؤولية الإخوان المسلمين بعد وفاة المستشار حسن الهضيبى المرشد الثانى للإخوان فى عام 1972، وظلت الجماعة تعيش بلا مرشد حقيقى يحدد مستقبلها، وطريقها، خصوصًا أن هناك عددًا من الإخوان ما زالوا فى السجون ولم يُفرج عنهم بعد الفترة الغامضة التى استمرت من عام 73 إلى 76، ولا يوجد فيها أى مرشد يعرفه الناس مسؤول عنهم ويتحدث بلسانهم.
كان عمر التلمسانى فى هذه الفترة يُقدَم إلى الرأى العام ليس بوصفه المرشد ولكن باعتباره المتحدث الرسمى أو الإعلامى لجماعة الإخوان المسلمين، هذه الفترة الغامضة حدث خلاف تاريخى بخصوصها، هل ظلت هذه الفترة بلا مرشد؟ أم كان هناك مرشد فى الخفاء لا يعرفه الرأى العام؟
عندما بحثت فى هذا الموضوع وسألت كل الشهود الذين كانوا أحياءً من كبار قيادات الإخوان عرفت أن الإخوان كانوا قد أجمعوا أمرهم، والإخوان الذين أقصدهم هم عدد مع أعضاء مكتب الإرشاد، منهم الحاج أحمد حسانين والحاج مصطفى مشهور والدكتور أحمد الملط، اجتمع هؤلاء وذهبوا إلى واحد من الجيل القديم فى النظام الخاص للجماعة اسمه حلمى عبد المجيد، وبالمناسبة لا يزال على قيد الحياة وهو من سكان الدقى، كان حلمى وقتها نائب رئيس شركة «المقاولون العرب»، وكان من المقربين إلى عثمان أحمد عثمان، وكان قد قضى فى السجن مع الإخوان بضع سنوات ثم عاد فى السبعينيات إلى موقعه فى الشركة ليترقى، ويسند إليه عثمان مهام كبيرة تقربه من أنور السادات، ذهب هؤلاء «مجموعة مكتب الإرشاد» إلى حلمى عبد المجيد، وطلبوا منه أن يكون مرشدا سريًا يُمنع تقديمه للرأى العام ولا يعرف أحد خبره إلا قيادات الجماعة فقط، وبايعوه على ذلك، إلا أنه نشأت بعد ذلك بعض المشكلات فى الدول العربية، ولم يقبل الإخوان فيها أن يبايعوا حلمى، وخرجت من الكويت والسعودية منشورات من إخوان الدول العربية عناوينها «المرشد المجهول يقود الجماعة إلى مصير مجهول»، وفى عام 76 أصر حلمى عبد المجيد على أن يترك موقعه، فذهب أعضاء مكتب الإرشاد إلى الأستاذ عمر التلمسانى، وطلبوا منه أن يكون مرشدًا وبايعوه على ذلك، وكان فى ظنهم أن عمر صيد سهل ممكن السيطرة عليه والعمل من وراء ظهره. وقد حاول الحاج مصطفى مشهور وأحمد حسانين ومجموعتهما السيطرة على الجماعة فى عهد التلمسانى، إلا أنه لم يكن صيدًا سهلًا، وفى ذلك كان السر فى دخول جيل الشباب إلى الإخوان، حيث إن عمر التلمسانى أراد أن يستند إلى دماء جديدة وأعداد من الشباب يستطيع من خلالها السيطرة على الجماعة، وعدم ترك النظام الخاص «مصطفى مشهور وتابعيه» يتوغلون فى الجماعة وينفذون أفكارهم.
■ ذكرت فى قضية النقابيين أنه قد تمت الاستعانة بمحامين إنجليز، فلماذا الإنجليز تحديدا؟ وكيف تم الاتصال بهم؟ وعلى نفقة مَنْ جاؤوا؟
- بالنسبة إلى المحامين الإنجليز فى قضية النقابيين كان للأستاذ كمال الهلباوى دور كبير من خلال مجهوده وهو فى لندن فى مخاطبة المنظمات الحقوقية وتسليط الضوء على الانتهاكات التى تعرض لها الإخوان فى المعتقلات، والقضية لفتت نظر سير بريطانى كان عضوًا فى مجلس العموم، وهو باكستانى الأصل وأحد كبار رجال الأعمال فى العالم واسمه محمد خان.
قام هذا السير البريطانى المسلم بدوره بتوكيل 4 محامين بريطانيين منهم أكبر محامٍ إنجليزى سنًا واسمه آرثر، وكان وقتها فى التسعين من عمره، تواصل معهم أيضا الدكتور سليم العوا. آرثر كان سكرتير تشرشل فى زمن الحرب العالمية الثانية، وكان هناك محام أستاذ فى جامعة هارفارد، وكان باكستانى الأصل، وأيضًا كان هناك اثنان آخران منهما محامية إنجليزية من منظمة العفو الدولية.
وأذكر بعد حضورهم 3 جلسات، كان الإخوان يتفقون على إقامتهم، وكان خان من يدفع أتعابهم، والذى كان معه الميزانية، وكان عصام سلطان مفوضا من قبل المستشار مأمون الهضيبى فى تغطية كل مصروفاتهم الداخلية، نزلوا فى فندق «بيراميدزا»، وحصل أنهم قرروا عقد مؤتمر صحفى فى الفندق ليدلوا برأيهم فى القضية من الناحية القانونية والسياسية، إلا أن مباحث أمن الدولة وجّهت الفندق إلى عدم السماح لهم بعقد المؤتمر، فحاولوا عقد المؤتمر الصحفى فى حجرة مستر آرثر فمنعهم أمن الفندق أيضا.
قرروا عقد المؤتمر فى الشارع فجاء أحد ضباط أمن الدولة وحاول أن يخطف الميكروفون من المحامية الإنجليزية، فما كان إلا أن انهالت عليه ضربا بالأقلام على وجهه، ولم يستطع أن يفعل شيئا، وبالمناسبة أصبح هذا الضابط فى ما بعد ذلك بعشر سنوات هو الذى سلط جنوده لضرب أحد القضاة أمام نادى القضاة، وهو محمود عبد اللطيف حمزة.
■ قلت إنه كان ضمن المحبوسين فى قضية النقابيين فريق مغدق عليه من قبل الجماعة، وفريق آخر محروم.. فمَنْ هؤلاء؟ ولماذا التفرقة؟
- داخل الإخوان فى «خيار وفاقوس» وفى القوى والضعيف، ولأنه مجتمع مثل باقى المجتمعات، وهناك قاعدة ترسخت داخل الجماعة منذ قضية «سلسبيل» وهى أن الأخ الذى يُحبس تتقاضى أسرته راتبًا، وميزانية الإخوان كبيرة جدًا لا يستطيع أحد أن يحسب مقدارها، وبالتالى فإن المبالغ التى تدفع إلى الإخوان المحبوسين قليلة جدا بالنسبة إلى الإيراد الشهرى للجماعة، وبما أن الإخوة تتفاوت مستوياتهم الاجتماعية والمادية، فإن هناك بعض الإخوة أصحاب المستويات المرتفعة، وهناك إخوة عاديون، فكانت الجماعة فى قضية عام 99 تدفع لبعض الأسر 3 آلاف، والبعض الآخر 5 آلاف شهريًا، وكانوا قد قرروا لأسر أخرى ألف جنيه فى الشهر، دون أن يكون هناك أى مبرر فى التفرقة فى هذه المبالغ.
■ الحكم بحل مجلس نقابة المهندسين استند إلى وجود وقائع فساد مالى، باستثمار أموال معاشات النقابة بشكل غير قانونى، وتم ضخها فى بعض الشركات التابعة للإخوان، وتحديدًا شركات الكمبيوتر.. فما مدى حقيقة تورط قيادات الإخوان النقابية فى وقائع فساد مالى واختلاسات؟ ولماذا لم تَستخدم الدولة آنذاك تلك الوقائع فى محاكمات جنائية للإخوان بسبب الفساد؟ وهل تكرر ذلك فى نقابتى الأطباء والمحامين وباقى النقابات التى كانوا يسيطرون عليها؟
- هناك اتهامات وجهت فى نقابة المحامين وأحيل المتهمون إلى هيئة الكسب غير المشروع، وانتدب المستشار المسؤول عن التحقيق لجنة من أكبر خبراء وزارة العدل، وانتهت اللجنة إلى أن نقابة المحامين لا توجد فيها أخطاء تستاهل المحاسبة الجنائية.
أما بالنسبة إلى المهندسين فكان وقتها حسب الله الكفراوى نقيبًا، وكانت هناك مخالفات ضخمة بخصوص إسناد معارض السلع المعمرة إلى شركات إخوانية يمتلكها الشاطر وحسن مالك، وأظن أن حسب الله الكفراوى كان له دور فى عدم إحالة هذه المخالفات إلى النيابة العامة، لأنه من كان يملك هذا الأمر واكتفى بموافقة على الخطوة السياسية بفرض الحراسة.
بل إن الكفراوى وهو النقيب وافق وأعضاء مجلس النقابة الإخوان على تعيين المهندس خيرت الشاطر عضوا بمجلس إدارة «بنك المهندس»، وهو ملك للنقابة، رغم أنه لم يكن عضوا بمجلس النقابة، وهو ما يعد مخالفة صريحة لجميع اللوائح والقوانين المعنية بهذا الشأن.
وبالنسبة إلى نقابة المحامين فلأنه لم تكن هناك مخالفات جسيمة فى المحامين بدأت الحراسة فى 96 وانتهت فى 99 لكن فى نقابة المهندسين بدأت فى عام 95 ولم تنتهِ إلا بعد الثورة، لأن كمّ المخالفات المالية كانت تنوء بحملها الجبال لدرجة أنك تستطيع القول إن نقابة المهندسين كانت فرعًا من الجماعة وأموالها مختلطة إلى حد كبير.
■ أكدت فى الحلقة الثالثة أن الجماعة فى أمس الحاجة إلى أرضية وطنية، وبعض المهمومين بالوطن يرون أن مشكلتهم الأساسية مع الجماعة وباقى تنويعات الإسلام السياسى ليست فى مرجعياتهم الدينية، وإن كانت تلك المرجعية هى السبب الرئيسى فى تلك المشكلة، ألا وهى أن جماعة الإخوان وغيرها من الجماعات لا تنظر إلى مصر باعتبارها وطنًا، ولكن مجرد بلد من بلاد الإسلام، أو بالأحرى دولة الخلافة، وأن انتماءهم الحقيقى هو للتنظيم وأفكاره، ومن ثم لا بأس من بيع الوطن والإضرار به إذا كانت فى ذلك مصلحة للتنظيم أو الجماعة، وهم لا يرون فى ذلك خيانة أو شرخًا كبيرًا فى معنى الانتماء. فكيف تقرأ هذه الرؤية؟
- جماعة الإخوان لا تعيش على الأرض ولكن تعيش فى الهواء، والجماعة التى تعيش فى الهواء هى جماعة بلا أقدام ولكن بأجنحة، وقد خلقنا الله لندّب على الأرض وننتمى إليها، ولكن مشكلة الإخوان أنهم لا ينتمون إلى الأرض التى نعيش عليها، ولا إلى الوطن، ويظنون أن الانتماء إلى العقيدة والدين يجب أن يسبق الانتماء إلى الوطن مع أنه لا تعارض ولا أفضلية لأى منهما على الآخر.
وكما قال المرشد السابق طظ فى مصر والانتماء إلى الوطن ليس مهمًا.
يأتى هذا عند الإخوان من خلال فهم خاطئ لآيات القرآن الكريم فهم يسترشدون بالآية «وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» فيقولون: لذلك يجب أن يكون المسلمون كلهم أمة واحدة، مع أن معنى الآية يختلف مع المعنى الذى يرد فى أذهان العامة، لأن كلمة أمة فى اللغة وفى الآية تعنى الدين والعقيدة، ولذلك فإن جماعة الإخوان من هذا المنطلق أصبح لها أولويات خاصة بها تختلف عن أولويات أى جماعة وطنية أخرى، ومن هنا قلت إن الجماعة يجب أن تعيد النظر، وتتحول إلى جماعة وطنية وتكون أولوياتها هى أولويات الوطن، ولكن أظن أن هذا لن يحدث فى هذا الجيل أو حتى على مدار 3 أجيال قادمة، لأن فساد التفكير أصاب الجماعة فى مقتل.. وتحتاج على الأقل إلى 50 عامًا.
وهذا ما يجعلنى أؤكد أن عمْر الجماعة قصير، وهنا لا يمكن التعويل على الثمانين عامًا الماضية، وأى عالم فى الاجتماع السياسى يدرس الجماعة سيدرك فورًا أنها إلى أفول ومصيرها الزوال، لأن هناك قواعد لبقاء أى جماعة، وهى التى يفتقدها الإخوان المسلمون، فإذا غاب العدل عنها وتفشى فيها الظلم، وإذا غيّبت الحريات وضاعت، وإذا أغلقت منافذ التفكير، فإنها ماضية حتمًا نحو نهايتها، ولا يغرك الأعداد الكبيرة، فهى صور مكررة لنسخة واحدة، فأفراد الإخوان مستنسخون، يستخدمون نفس الكلمات، تُستخدم هى هى، ونفس التعبيرات ونفس طريقة التفكير.
■ أشرت إلى تزوير نتائج الانتخابات الداخلية بالجماعة مطلع التسعينيات لاختيار من يمثلها فى انتخابات نقابة المحامين آنذاك، ونجاح خمسة آخرين على غير رغبة المصوتين، بينهم شخص نجح بقرار من المرشد، وأيضا كان أحد أعضاء التنظيم الخاص، فمَن أولئك الناجحون بالتزوير، ومَن هو خامسهم؟
- الخمسة الناجحون هم، مأمون سيد، وصلاح سالم، وجمال تاج، وسيد عبد العزيز، أما خامسهم فاسمح لى أن أحتفظ بكامل اسمه، لكن يكفى أن تعلم أنه لا يزال عضوًا فى التنظيم الخاص. وكان فى السابق أحد أعضاء فرقة رضا ورقص مع نيللى فى أول فوازير لها، ورقص فى فيلم «مولد يا دنيا».
■ هل صحيح -كما قلت سابقا- إن خيرت الشاطر هو من رسم عملية إعادة تأسيس وإنشاء النظام الخاص؟ هل كانت ميليشيات الأزهر أحد المظاهر المعبرة عن ذلك النظام؟ هل هناك شواهد على وجود ذلك النظام ظهرت خلال أيام ثورة 25 يناير؟ هل تكررت هذه الشواهد لميليشيات النظام الخاص بعد تولى مرسى الرئاسة؟ وفى السياق نفسه هل انتهى تمامًا أمر النظام الخاص فى الخمسينيات بعد قرار حل الجماعة وحتى عام 1993، التاريخ الذى أشرت إليه، أم كانت له خلايا نائمة أحياها الشاطر؟ ولماذا اختير الشاطر تحديدا؟ ومَنْ كان معه أيضا من القادة البارزين؟ وما العناصر التى بناء عليها قام التنظيم الخاص؟ وبالأحرى ما المقومات العسكرية؟ وإلى أى حد بلغ مستوى التدريبات لأعضائه؟ وكيف كان يتم اختيار أفراده؟
- خيرت الشاطر هو أحد من وضعوا خطة التمكين، وكان عام 89 قد أخذ بناء على تصريح من الحاج مصطفى مشهور أسماء جميع أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر، وعناوينهم وبياناتهم واسم الشخص الذى قام بتجنيدهم وموقعه، ووضع هذه الأسماء فى جهاز الكمبيوتر الخاص بشركته «سلسبيل» الكائنة فى النزهة بمصر الجديدة، وكان قبل ذلك قد نجح فى خطوات تأسيس الشركة، لدرجة أن سوزان مبارك زارت جناح الشركة فى معرض الكتاب، وكان خيرت الشاطر وحسن مالك فى استقبالها وكانت الشركة قد رسى عليها تنظيم فاعليات دورة الألعاب الإفريقية التى نظمتها مصر عام 91، إلا أن الأجهزة الأمنية وصل إليها أن خيرت وضع خطة التمكين بأسماء كل الإخوان على جهاز الكمبيوتر الخاص، عبر «سلسبيل» فاقتحمت أجهزة الأمن مقر الشركة وتم إحالة الشاطر ومالك وأشرف عبد السميع لنيابة أمن الدولة مع آخرين، وقد استعانت الأجهزة وقتها بخبراء كمبيوتر من الجامعة الأمريكية لفك شفرة جهاز الكمبيوتر للحصول على بيانات الإخوان، وقدم بذلك الشاطر أكبر هدية لأمن الدولة، وحدثت حالة غضب شديدة داخل الإخوان وطلبوا التحقيق فى الأمر وثاروا على الحاج مصطفى مشهور، لأنه هو الذى صرح للشاطر بالاحتفاظ بالأسماء، وكان المفترض أن يتم التحقيق مع خيرت بعد خروجه ولكن سطوة مشهور منعت ذلك، والمدهش أن ما حدث هو العكس، فعقب خروجه بعد 9 أشهر تمت ترقيته ليصبح مسؤول محافظة القاهرة، ثم ليصبح بعد ذلك عضو مكتب الارشاد.
■ الشاطر كان مسؤولا عن التنظيم الخاص بتوجيه من الحاج مصطفى مشهور ولا يزال حتى الآن بالتعاون مع محمود عزت وميليشيات الأزهر كانت أحد المظاهر طبعا ولكنه كان تسرعًا من الإخوان وقالوا إنها تدريبات رياضية.. وأى تنظيم هذا الذى يتدرب على القتال؟!
أعضاء التنظيم يعيشون بيننا الآن من شباب الإخوان وهم مدربون على مواجهة المظاهرات والذين يفعلون ذلك مدربون على العمليات القتالية، ومن حقنا أن نتساءل هل أحداث رفح التى ساعدت مرسى على إقالة طنطاوى وعنان كانت مجرد أحداث ساذجة غير مخططة، أم أن هناك من خطط لإعطاء مرسى الفرصة للسيطرة على الدولة؟ وهذه تساؤلات لا اتهامات، وظهرت هذه الميليشيات أيام الثورة فى مليونيات الإخوان كالقبض على متظاهرين ينتمون إلى قوى سياسية أخرى، والفضل الذى يشيد به الناس بالإخوان فى موقعة الجمل وأنا معهم، أضرب تعظيم سلام لكنى أضع الكلمة بجوار الكلمة لنخرج بمعنى واضح، وهو أن الذى واجه البلطجية المسلحين بالسيوف والأسلحة البيضاء واستطاع ردعهم والقضاء عليهم، وقتل بعضهم لا بد أن يكون شبابًا مدربًا على القتال على أعلى مستوى، وكان يشرف على النظام الخاص ضباط من الجيش، تستطيع أن تقول إن معظم جماعة الإخوان الآن فى النظام الخاص، وكل من ينضم يتم تلقينه رسالة «التعليم» التى هى فى الأصل للنظام الخاص فقط، ولك أن تعلم أن كل ما يتعلق بالسمع والطاعة والثقة فى القيادة وضعها البنا للنظام الخاص لا العام، وظلت الجماعة إلى نهاية عهد عمر التلمسانى بعيدة عن ذلك، ولكن بعد ذلك بدأت مناهج النظام الخاص تتسرب إلى الجماعة، حتى أصبحت كلها نظامًا خاصًا، ولذلك ترفض أن تُشهر نفسها، وتخصع نفسها للقانون، لأن وسائلها غير مشروعة وغير متوافقة مع النظام العام فى مصر.
■ أشرت فى مقالاتك إلى ذلك الشاب الأبيض الذى اقتنع بما قاله سيد قطب بشأن تكفير العصاة، لا مَنْ ارتكب معصية من باب إنكار آيات الله والكفر بها، وإنما مجرد ارتكاب المعصية فقط يوجب التكفير، فإذا استدعيته بشكل فرضى وروح سيد قطب، وذلك الشاب فى تلك اللحظة كما كان يؤمن وقتها، وسألناهما عن قبول محمد مرسى ومستشاريه من الإخوان بقرض البنك الدولى، وفيه أيضا فائدة أو حسب مفاهيمهم معاملة ربوية، فهل سيجيب قطب والشاب بتكفير مرسى ومَنْ حوله، مع ملاحظة أن جماعة الإخوان كانت تنكر على نظام مبارك الاقتراض من البنك الدولى، بل إنهم كانوا ينكرون عليه المعونة الأمريكية؟
- ذلك الشاب الأبيض هو شكرى مصطفى زعيم تنظيم التكفير والهجرة وقصة هذا التنظيم أن اسمه وفقا لما أطلق عليه أصحابه «الجماعة المسلمة»، فهم فقط المسلمون وباقى البشر غير ذلك.
خطورة الحديث عن شكرى مصطفى أننى أقدم الأدلة، فكان من الإخوان وكان فكره التكفيرى قد حاز قبول قيادات مثل مصطفى مشهور وأقدم من خلال الكتاب أدلة يقينية على أن بعض أعضاء الجماعة الآن بايعوا شكرى مصطفى على اتباع أفكاره عندما كانوا فى السجن سويا فى شهر يونيو عام 67 وأن يتوغلوا داخل جماعة الإخوان وينفذوا أفكاره الخاصة بإعادة الإسلام إلى العالم لا الخلافة، فهو لا يعترف أن الإسلام موجود أصلا، وأما بخصوص القرض أستطيع أن أؤكد أنهم سيقبلون قرض البنك الدولى لأن الأمة العقيدية المطلقة التى ترى فى نفسها الطهر وترى فى غيرها النجاسة، هذا التعبير استخدمه بديع قبل الثورة بأيام عندما قال إن الإخوان يمتلكون ماء السماء الطهور وينظفون به نجاسات الشعب والنظام الحاكم، وهذا شديد الشبه بأمة اليهود التى ترى أنها شعب الله المختار، فتعطى لنفسها الحق فى أن تأخذ الحقوق.
ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا حرام عند الضرورة، ووفق هذه القاعدة يمكن أن يفعلوا أى شىء.
فعلى مبارك والذى خارج الأمة العقائدية لا يجوز له ولكن لهم يجوز، وهناك علامة استفهام كبرى بخصوص وقوف الأمريكان مع الإخوان، تستطيع القول إنها علامة استفهام تاريخية، والإجابة الحقيقية موجودة عند محمد مرسى، وهشام قنديل، وعبد الفتاح السيسى، وقبلهم مصطفى مشهور إذا استحضرناه من قبل وبعض شخصيات أخرى لن أستطيع ذكرها الآن، لكن منهم أديبا كبيرا ومحاميًّا معارضا بقوة وأحمد شفيق، وأيضًا ملك البحرين.
تعودتُ منذ فترة على الطرق بقوة على أبواب الرأى العام، وأصبح من عادتى أن أستمر فى ضرب جرس الإنذار، فالناس يألفون ما شبَّوا عليه ويستمرئون ما وجدوا عليه آباءهم، ومنذ سنوات وقيادات جماعة الإخوان تكذب بشأن «شرعية جمعيتهم» ومن فرط الاستمرار فى الكذب تعوَّد الناس على أقوالهم فأصبحت وكأنها حقيقة، وأصبح من يخرج على الناس بقول آخر وكأنه يخالف النواميس الكونية، نعم جماعة الإخوان تكذب وتسرق وترتكب الموبقات، شأنها شأن أى جماعة بشرية فى التاريخ.
شخص من الإخوان قال إن منتقدى الإخوان يكذبون، فقلت سبحان الله رمتنى بدائها وانسلت، الكذاب هو من قال إننا لن نرشح أحدًا لرئاسة الجمهورية ثم رشح، الكذاب هو من قال إن هناك مشروعًا للنهضة أعده الإخوان وسهر عليه ألف عالم واستغلوا هذا الأمر فى الدعاية لمرشحهم، ثم إذا بكبيرهم يقول بعد ذلك إنه لا يوجد مشروع للنهضة، وإن الإعلام فهم الأمر خطأ! الكذاب هو من قال إن الإخوان أعدوا للثورة قبلها بخمس سنوات فى حين أنهم كانوا يجلسون مع أعوان مبارك ويعقدون معهم صفقات، الكذاب هو من قال إن الإخوان شاركوا فى الثورة منذ اللحظة الأولى وهو من قال من أول يوم فى الثورة إن الإخوان لن يشاركوا فيها لأنهم لا يعرفون مَن الذى دعا إليها، الكذاب هو من قال إنه تعرض لمحاولة اغتيال وتسبب فى القبض على أبرياء، وكان كل ما حدث له حادثة سير عادية، وملف الكذب لا تنفد عجائبه.
كنا نسمع فى الماضى، وما زلنا، أن جماعة الإخوان أقامت دعوى أمام محكمة القضاء الإدارى فى أواخر السبعينيات بطلب إلغاء قرار حل الجماعة، وقالوا إن الحكومة عجزت عجزًا مريبًا على تقديم قرار الحل، ثم استمروا فى قولهم بأن المحكمة، وقد وجدت أنه لا يوجد قرار حل للجماعة من الأصل، لذلك أصدرت حكمًا بعدم قبول دعوى إلغاء الحل، لأنه لا يوجد قرار، ثم يأخذ الأخ الذى يسرد لك هذه القصة فى حكايته الطريفة، وهو يمصمص شفتيه ويقول: كيف ستلغى المحكمة يا أخى الفاضل قرارًا لم يصدر؟! جماعة الإخوان شرعية، ومن حقها ممارسة أنشطتها، وليس لك بعد ذلك إلا أن تصخب على تلك الحكومات التى سلبت الشرعية من الإخوان.
وفى كل مرة كنت أسمع فيها هذه العبارات الدرامية كنت أواجه صاحبها بالحقيقة، فيسكت ولا يحير جوابًا، فقد تمت برمجته على أقوال أخرى، فإذا وُوجه بأقوال وحقائق مختلفة وقع منه «السيستم» وأصابه «التهنيج» إلى أن يتم وضع برنامج آخر له، وأذكر أننى تحاورت فى أحد اللقاءات مع أخ من الإخوة من نفس برنامج «إخوان ويندوز»، وقتها قال لى وفقًا للسيستم الخاص به: الجماعة حصلت على شرعية «الشارع»، وبالتالى لا يهمها فى كثير أو قليل شرعية القانون! وإذ ذاك قلت له حنانيك يا أخ (فإن شرعية الشارع لا يمكن أن تسير فى مسار يختلف عن مسار القانون! وإذا كان الفقه الحضارى الدستورى قد ذهب إلى أن القانون يظل حاملا شرعيته حتى يسقطه قانون لاحق أو حكم بعدم الدستورية، فإن الزج بالشارع المصرى فى هذا الصدد يعد من باب التخليط والتعتيم، وليس أدل على ذلك من أنه حينما أثير فى الآونة الأخيرة مفارقة بين «شرعية البرلمان» و«شرعية التحرير» ذهب رؤساء جمعية الإخوان المسلمين إلى أن شرعية الشارع والثورة والتحرير انتقلت إلى البرلمان يُعبر عنها كيفما يشاء). المهم أن آخر مرة سمعت فيها عبارة أن الجماعة شرعية ولم يصدر قرار بحلها، كان منذ يومين عندما أخذ الأخ حسن البرنس فى إحدى القنوات الفضائية فى ترديد نفس الكلام، إلا أنه أضاف جديدًا حينما قال: إننا ننتظر القانون الذى يستوعب أغراض الجماعة كى نوفق أوضاعنا بالنسبة إليه، ورغم أن الأخ البرنس من قدرة البرنامج الخاص به «استفزاز الناس» فإننى لم أُستفز لأننى أعرف وأفهم طبيعة السيستم الخاص به وأدرك تمام الإدراك دواعى «نسخ» مثل هذه الشخصية، ولأننى أعرف أن ترديد عبارات النسخة «حسن البرنس» هو جعل الرأى العام مهيئًا لها، مستوعبًا منطقها «اللا منطقى»، ففى عهد الإخوان يجب أن يصبح اللا منطقى منطقيًّا، والكذاب صادقا، والصادق كذابًا أشر، والحقيقة سراب، دعك من أنه من العار أن يقول أحد الإخوان فى عباراته: إن الإخوان يريدون قانونًا للجمعيات يخضع لهم، يعنى قانونًا على المقاس، يتم تفصيله خصيصًا لهم كما كان يحدث فى عهد مبارك، لكن الكارثة أن يظل الإخوان على كذبهم بشأن أن محكمة القضاء الإدارى أصدرت لمصلحتهم حكمًا يفيد أنه لا يوجد قرار حل للجماعة.
والحقيقة التى يتم التعمية عليها هى أن الحكم الذى صدر من محكمة القضاء الإدارى عام 1992 قال غير ذلك، لكن الجماعة اعتمدت على أن الناس فى بلادنا لا تقرأ، فأخذت تكذب ثم صدقت كذبتها، الحكم قال فى حيثياته إن ثمة قرارين صدرا بحل جماعة الإخوان، وأن القرارين صحيحان ولا يجوز المساس بهما، وقد عبرا عن إرادة المشرع، وأضاف الحكم أن القرارين تم تحصينهما بالمادة 191 من دستور 1956، وبالتالى لا يجوز لأى جهة أن تقوم بإلغائهما.
ولأننى كنت أحد المحامين الذين حضروا الفاعليات القانونية لهذه القضية فقد أتيحت لى الفرصة أن تكون لدىّ الأحكام وصور المذكرات وصحيفة الدعوى، ولأن الأستاذ حامد أبو النصر المرشد الأسبق، قد أقام طعنًا على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، فقد انتظرت وانتظر الناس حكم الإدارية العليا، لكن حكم الإدارية العليا تأخر أكثر من اللازم، ليس سنة أو خمسًا أو عشرًا، ولكن أكثر من عشرين عامًا والحكم لم يصدر، فما كان منى إلا أن أرسلت إلى مجلس الدولة بعد الثورة أسأل عن مصير الحكم فإذا بى أجد مفاجأة مذهلة، الملف ضائع، ملف الدعوى بأكمله لا وجود له فى مجلس الدولة، وآخر تصرف تم فى الطعن هو إحالته إلى «قلم الحفظ» دون أن يصدر فيه حكم، كان الطعن فى هيئة المفوضين للمحكمة الإدارية العليا ولم تكن هذه الهيئة قد وضعت تقريرها، فإذا بأحد المستشارين! يقوم بالتأشير على الملف فى شهر يوليو 1992 بإرساله إلى قلم الحفظ لمجلس الدولة بشارع رضوان بن الطبيب، وأفادنى الموظف الموجود بقلم الحفظ أنه تم تعيينه فى قلم الحفظ بعد تاريخ ورود الملف للحفظ، وأن الموظف القديم قد توفاه الله، وأنه منذ أن تم تعيينه فى قلم الحفظ وهذا الملف «غير موجود» فذهبت إلى هيئة المفوضين فأفادنى الموظف المختص بأن هذا الملف خرج من عندهم فى شهر يوليو 1992 ولم يعد بعد ذلك! السارق مجهول لنا، لكنه معروف للتاريخ، هذه قضية لا تَخفَى دقائقها، فالسارق هو المستفيد، ابحث عن المستفيد تعرف مَن سرق ملف قضيتهم التى استلزم الحكم فيها حل الجماعة، ولأن السارق المجهول معروف فقد تقدم المحاميان شوقى عيد وإيهاب سعيد ببلاغ إلى رئيس مجلس الدولة، إبراءً لذمتنا أمام التاريخ، يطلبان فيه التحقيق فى واقعة سرقة ملف الدعوى، لكن أحدًا لم يحقق، وأحدًا لم يبحث رغم المناشدات والتوسلات، وستظل النسخة «البرنس» وأخواتها فى ترديد «جماعة الإخوان جماعة شرعية، ولم يصدر قرار بحلها، وحكم القضاء الإدارى قال إنه لا يوجد قرار بالحل»! وأتمنى من الله أن يتم تعديل سيستم الأخ البرنس بعد نشر هذا المقال.
ثروت الخرباوى
اتهامات كثيرة وجهها القيادى السابق بجماعة الإخوان المسلمين الدكتور ثروت الخرباوى لجماعة الإخوان، حيث أكد الخرباوى أنه يملك مستندات تثبت عدم قانونية الجماعة، مشيرا إلى أن لديه حكما قضائيا صادرا من مجلس الدولة بحل جماعة الإخوان المسلمين، موضحا: أنه تقدم بصورة من الحكم ببلاغ إلى النائب العام، مؤكدا أن ملف القضية تمت سرقته، حتى لا يتم تنفيذ الحكم الصادر بهذا الشأن.
الخرباوى ذكر فى وقت سابق: أن «الإخوان» تمتلك ميليشيات مسلحة بداخلها، وأن مهدى عاكف المرشد السابق للجماعة، قال: إن الإخوان تمتلك عشرة آلاف شاب مدربين على الأعمال العسكرية، وأنهم مستعدون للذهاب للقتال فى جنوب لبنان، بشرط موافقة الدولة على هذا الأمر، مؤكدا أن الدكتور عصام العريان القيادى بالجماعة قال نفس التصريح على قناة «المنار» قبل ذلك، وأضاف العريان: أنهم مستعدون لإرسال أكثر من عشرة آلاف شاب.
الدكتور محمد جمال حشمت القيادى بالإخوان وعضو الهيئة العليا لحزب الحرية والعدالة، نفى ما قاله الخرباوى متهما إياه بالكذب، حيث قال حشمت: إن الجماعة ليس لديها ما يسمى بالميليشيات المسلحة، وإن الجماعة لديها مئات الآلاف من الشباب الذى يحضرون فى المعسكرات التربوية التى تعدها الجماعة، وهو أمر يتم تحت أعين وبصر الدولة والمجتمع، فلا يوجد لدى الجماعة ما تخفيه.
حشمت قال فى تصريحات لـ«التحرير»: إن الخرباوى لديه خصومة مع الجماعة، وما يقوله نتيجة للخلاف الشخصى مع الجماعة، مشبها كلامه بكلام واتهامات محمد أبو حامد التى يطلقها على الإخوان، مؤكدا أن الإخوان جماعة طالما سعت إلى النهج السلمى فى التغيير، وأى محاولة لاستخدام العنف ترفضها الجماعة ولن تسمح بها، ولن يسمح بها المجتمع أو المصريون.
حشمت أشار إلى: أن الاتهامات التى تروَّج بحق الإخوان لا يقبلها العقل والمنطق، خصوصا تلك التى تقول بأن الجماعة ليست قانونية، فلو كانت غير قانونية لما تمت تبرئة قادة الجماعة، خصوصا المهندس خيرت الشاطر أمام القضاء المدنى من تهمة الانتماء إلى جماعة محظورة، مما جعل نظام المخلوع مبارك يحاكمه عسكريا، حتى يستطيع أن يسجنه هو وغيره من قيادات الجماعة.
حشمت أوضح: أن هناك فرقا بين مشروعية الجماعة وبين توفيق أوضاعها. مؤكدا أن الجماعة قانونية، ومن لديه مستندات تثبت غير ذلك فليقدمها للقضاء. مضيفا: هناك قانون سيتم إصداره خاص بالجمعيات الأهلية، وهناك نقاش مجتمعى وحقوقى حول هذا الموضوع منذ سنة 2006.
مصطفى مشهور ومختار نوح وقيادات إخوانية
كان من الجُرم أن أقترب من «الأوراق المخفاة» لتنظيم الإخوان، والاقتراب من «الأوراق المخفاة» لدى أى جماعةٍ من الجماعات يعد كالاقتراب من منطقة ملغومة شديدة الخطورة، إذ لا تسعى أى جماعة إلى إخفاء بعض أوراقها وجعلها فى «طيات النسيان» إلا إذا كانت هذه الأوراق تشير إلى حقائق ترغب الجماعة فى إخفائها عن الأنظار، إما لخطورتها، وإما لأنها تكشف عن توجهاتٍ فكريةٍ أو حركيةٍ تمثل منهجًا حقيقيًّا للجماعة غير منهجها أو خطابها المعلن. وكبعض الدول تفعل جماعة الإخوان، فإذا كانت الدولُ تُخفِى وثائقَها وتحيطها بالسرية وتضع عددًا من السنوات للكشف عنها، فإن جماعة الإخوان تسعى دائمًا إلى إخفاء جميع وثائقها، إلا أنها -على عكس الدول- لا تسمح أبدًا بالإفراج عن هذه الوثائق مهما طال الزمن، وحين اقتربتُ من وثائق الإخوان المخفاة اقتربت من منطقة الخطر، وهى منطقة الداخل فيها مفقود والخارج منها مولود، ولكن ما جدوى هذه المغامرة؟! وما أهمية أن يعرف الناس أوراق الإخوان المخفاة؟ تلك الأوراق التى لا يعرفها أعضاء الجماعة أنفسهم، حيث يظنون أنهم يركبون مركبا صيغ من النور يسير فى موكب ربانى يقودهم إلى دولة الإسلام المفقودة؟ من ذا الذى يستطيع أن يقاوم سحر هذا المركب النورانى، والموكب الربانى؟ طيبون هم، تقودهم نياتهم الطيبة، مخلصون هم، تحركهم مشاعرهم النقية التقية، والنيات الطيبة والمشاعر النقية تدل على الطريق فى بعض الأحيان، ولكنها فى أحيان أخرى تُعمى البصر.
للمغامرة أهمية إذن، فهى تكشف الخطر الذى يواجهنا جميعا، ذلك الخطر الذى يتسلل برفق إلى حياتنا وهو يبتسم كأنه «داعية» يحبب إلينا أخلاق الإسلام، ولكنه فى ذات الوقت يخفى خلف ظهره نصلا حادا يريد غرسه فى قلوبنا، وكما تكشف مغامرتى هذا الخطر تكشف أيضا الوهم الذى يعيشه أصحاب النيات الطيبة، وليته كان وهما فحسب، ولو كان ذلك لهان الخطب، ولكنهم لا يدرون أنهم يجلسون على طاولة متفجرات فوق فوهة بركان، وحين تنفجر القنبلة ويثور البركان فإنه لن ينفجر أو يثور فقط فى وجه أولئك الذين يظنون أنهم يتهادون فوق مركبهم النورانى فى الموكب الربانى، ولكنه سينفجر فى وجوه الجميع، سينفجر فى وجه مصر كلها، حينها سيصبح الإسلام فى أعيُن العالم متهما، ومن حيث يظن الطيبون أنهم يذهبون إلى دولة الإسلام المفقودة، فإنهم سيفقدون دولة المسلمين المنشودة.
■ ■ ■
- قنبلة يا أحمد يا ربيع! أو أكثر من قنبلة! جماعة الإخوان أعادت إلى الحياة مرة أخرى قسم الوحدات، الجماعة لها تنظيم داخل الجيش.
- هى أكثر من قنبلة فعلا يا ثروت، فهى كتيبة عسكرية كاملة، أو قل جيش عسكرى كامل، الإخوان بذلك يا صديقى يكونون قد أعادوا زمن إحياء قسم الوحدات، وهو أخطر أقسام الجماعة كما تعلم، ومع قسم الوحدات تم إنشاء قسم للقضاة، هذه مؤسسات يريد الإخوان السيطرة عليها لأنها ستكون الأداة التى ستساعدنا فى مرحلة التمكين، وبهذا التنظيم وضعت الجماعة خطة تمكين كاملة.
- أعرف قصة قسم القضاة، وعندما كنت من إخوان منطقة الزيتون كان معى فى أسرتى لفترة المستشار الشقيرى وهو رئيس دائرة فى الاستئناف، وأعرف أنه كان يزاول نشاطا إخوانيا وسط القضاة.
- شوف يا عم ثروت نحن الآن فى عام 1999، وأراهنك أننا سندخل فى صدام قوى مع النظام فى غضون عشر سنوات من الآن.
- تقديرات الحاج مصطفى مشهور تختلف عن تقديراتك فقد قال فى الحديث الصحفى الذى قلت لى عنه بجريدة «الشرق الأوسط» العام الماضى: «إن الإخوان سيصلون إلى الحكم بعد عشرين عاما، أى عام 2018»، وقال أيضا: «إن الإخوان لديهم خطة سيصلون إلى الحكم من خلالها».
- الحاج مصطفى له فلتات لسان تفضح أسراره فى بعض الأحيان، مع أنه من الشخصيات الكتومة! انفلت لسانه معنا منذ سنوات فى القصة التى حكيتها لك ولكن المستشار مأمون أسكته وأنكر، ولكننى لم أعوِّل طبعا على إنكار المستشار، ولعلك لاحظت أنه فى جلسته معنا ظهر اليوم انفلت لسانه بكلمة خطيرة تستطيع أن تعتبرها اعتراف العمر.
- هل عندما أشار إلى شعار الجماعة قال لك «ألا ترى كلمة (وَأَعِدُّوا) التى بين السيفين؟ نحن نعمل بها منذ سنوات طويلة».
- نعم، هى هذه الكلمة، فهمتها فورا لأننى أحفظ الحاج مصطفى عن ظهر قلب، تعرف أننى كنت من أوائل من دخل جماعة الإخوان من محافظة الجيزة فى السبعينيات، وكان أول مسؤول إخوانى عنى هو الحاج مصطفى، فقد كان نقيبى فى أول أسرة إخوانية التحقت بها، وكانت جلسات أسرتى تنعقد فى مقر الإخوان بشارع سوق التوفيقية إذ كنا من مناطق مختلفة، وما زلت أذكر الحاج مصطفى وهو يقول لنا فى إحدى جلسات الأسرة: «فى يوم قريب أقرب مما تتوقعون سنعيد قسم الوحدات مرة أخرى، فلا حياة للإخوان بغير هذا القسم، هل تتصورون دولة بلا أمن وبلا جيش! نحن دولة، بل نحن أكبر من دولة، نحن أمة الإسلام، ويجب أن يكون لهذه الأمة أمن وجيش، ويوم أن يعود قسم الوحدات سيكون شعاره (وأعدوا)»، وأذكر أننا ناقشناه وقتها بخصوص قسم الوحدات وعن سبب التأخر فى تفعيله فقال لنا: «من الإخوان من يرفضون هذا الأمر تماما خوفا من ردود فعل النظام»، ولكن الحاج مصطفى أنهى كلامه معنا فى هذا الشأن قائلا: «إن جبهة الرفض يقل عددها، وعن قريب سيكون للإخوان قوة تحميهم».
- اعتراف خطير يا أحمد، ولكننى أرفض هذه الطريقة فى التفكير والتخطيط، أنا مرتبك الآن فلم يدُر فى خلدى أبدا أن أكون منخرطا فى تنظيم هكذا، أنا دخلت الإخوان من باب الدعوة لا من باب القوة والفتونة، نعم قرأت من قبل كثيرا عن قسم الوحدات ولكننى اعتقدت أنه ظل محبوسا فى «فترة من فترات» تاريخ الجماعة ولم يطلق أحدهم سراحه.
- لا عليك يا صديقى، فنحن إخوان على طريقتنا لا على طريقتهم، وكلٌّ يمارس ما يراه معبرا عن نفسيته، المهم أن لا نتورط فى مثل هذه الأنشطة المهلكة، أما قسم الوحدات الذى ظننته «محبوسا فى التاريخ فلم يتم الإفراج عنه»، فهو يحتاج إلى أبحاث ودراسات، وبغض النظر عن تاريخه فإنه كان مختصا بقيادة تنظيم الإخوان فى الجيش والشرطة، وكان قد تم إسناده فى أيامه الأولى فى زمن حسن البنا للصاغ محمود لبيب، وبعد ذلك تولاه الأستاذ صلاح شادى ثم أبو المكارم عبد الحى ثم عادت مسؤوليته إلى الأستاذ صلاح شادى مرة أخرى إلى أن توفاه الله.
- ولكنك لم تقل لى ما خطة التمكين؟
- خطة التمكين هذه ناقشناها مرة، وأنا باعتبارى عضوا فى «شورى الإخوان» اطّلعت على بعض بنودها، وهى تقوم على السيطرة على الجيش والإعلام والقضاء، هذه ثلاث ركائز إن سيطرنا عليها كان طريق وصولنا إلى الحكم ميسرا، ولكن القارئ للخطة يظن للوهلة الأولى أنها مجرد أمنيات ويقع فى خلده أنها خطة للمستقبل وأن الإخوان يضعون تصورا لكيفية التمكين، ولكن مع مسار الأحداث التى مرت بنا اتضح أن الإخوان قطعوا أشواطا فى طريق تنفيذ هذه الخطة.
داهمنى الوقت وأنا أجلس مع أحمد ربيع حتى إننى غادرت مكتبه مع الهزيع الأخير من الليل، قدت سيارتى دون أن أشعر بالموجودات التى تمر بى وأنا فى طريقى إلى البيت، ومع صوت الشيخ مصطفى إسماعيل وهو يقرأ من سورة الإسراء سَبَحتُ مع آيات الله فى أجواء هُيُومية عاشقة، وسرحت مع ذاتى فى خواطر غُيُومية ملبدة، ما الذى دار داخل جماعة الإخوان أو ما الذى حدث لقلبها؟ القلبُ كما يقول العلماءُ قُلّب، وما سُمِّىَ القلبُ قلبًا إلا من تقلبهِ فاحذر على القلبِ من قلبٍ وتحويلِ، ولكن جماعة الإخوانِ لم تحذر، ولم يتنبه البعضُ منهم.. لم يتنبه الراشدون من رجالهم، وها هو «قطارُ الإخوانِ» يسير بعيدا عنهم وهو يحمل رُكَّابا لا نعرفهم ولا نستطيع أن نصافح وجوههم، وإذا بهذا القطار ينقلب وهو فى منتصفِ الطريق فى ما يُعرف بأكبر عملية انقلابٍ فكرى فى العصر الحديث، ولكن هل انقلب القطار فعلا أم أننا كنا الذين لا نراه على حقيقته؟
■ ■ ■
يجتازنا الزمن ولا نجتازه، يمر بنا ولا نمر عليه، وحين يمر بنا لا نستطيع أن نوقفه أو نلتقط لحظة منه نحيا فيها على الدوام بشكل سرمدى بلا ابتداء ولا انقطاع ولا انتهاء، غاية ما نستطيعه أن نضع أحداثه فى أرشيف الزمن، حينها نستطيع أن نمر على الزمن كلما جنَّ علينا الضباب.
التاريخ: يوم مجهول من أيام عام 1972.
المكان: مدينة الإسكندرية.
شاب صغير ذو وجه أبيض وشعر بنى يسعى إلى لقاء الحاج مصطفى مشهور لسؤاله عن الإخوان وتاريخهم وفكرهم، تطرق اللقاء إلى شكرى مصطفى الذى كان معتقلا فى السجن فى قضية سيد قطب عام 1965.
الشاب الصغير وهو يتحدث بعاطفة متقدة: يا حاج مصطفى أنا أحبك فى الله وأحب دعوة الإخوان المسلمين وقد تعاطفت معكم تعاطفا كبيرا، وتأذيت نفسيا من الظلم الذى وقع عليكم فى أثناء حكم عبد الناصر.
رد مصطفى مشهور بصوته الهادئ: أَحَبّك الذى أحببتنى فيه يا أخى الكريم، عرِّفنى نفسك؟
قال الشاب ووجهه يتهلل من الفرحة: أنا ابنك خالد الزعفرانى، وأريد أن أستفسر منك عن بعض الأشياء.
ابتسم الحاج مصطفى فى وجه الشاب ثم قال: استفسر كما تشاء.
خالد الزعفرانى بأدب جرىء وجرأة متأدبة: تعرفت منذ فترة إلى أخ كان معكم فى محنة السجن اسمه شكرى أحمد مصطفى، أريد أن أسأل عن دينه وفكره كيف هو، فقد جلس مع كثير من الإخوة وأخذ يتنقل بين المحافظات ويجتذب أنصارا لأفكاره، وأريد أن أتأكد أنه من الإخوان ويسير على منهج الإخوان.
مصطفى مشهور مستفسرا: شكرى الذى تخرج فى كلية الزراعة؟
خالد الزعفرانى مجيبا: نعم هو.
مصطفى مشهور: أعرف شكرى طبعا، وهو شاب ممتاز ظاهره كباطنه، وهو متدين بحق، صحيح فيه بعض التشدد والغلو فى الدين ولكنه لم يخرج عن أفكارنا، وما زالت صلة تربطنا به.
خالد الزعفرانى: أأصاحبه وآخذ منه؟
مصطفى مشهور: لا بأس، خذ منه فهو أخ من الإخوان.
خالد الزعفرانى: أنا ذهبت إلى كثير من الإخوان الذين كانوا معه فى السجن وكلهم امتدحه وامتدح أفكاره، ولكن بضعة نفر قالوا إنه يكفّر المجتمع.
مصطفى مشهور: لا.. هو لم يخرج عن ضوابط التكفير التى نعرفها، كن معه ولا تخشَ شيئا.
قام الشاب خالد الزعفرانى من جلسته مع الحاج مصطفى مشهور، وقد عزم عزما أكيدا على أن يتبع شكرى مصطفى ويأخذ منه، فقد زالت الشكوك والشبهات التى كانت تعتمل فى ضميره حينما أخذ صك الإجازة من الحاج مصطفى.
لم تكن خطوات شكرى مصطفى بطيئة عيِيَّة، ولكنه كان يقطع الفراسخ والأميال إلى تكوين جماعته فى سرعة مذهلة، كان هذا الشاب الذى نشأ كاليتيم فى ظروف بالغة القسوة يؤمن بما يقول ويقول ما يؤمن به، اختلطت فكرته بشخصه واختلط هو بفكرته فعاش على يقين أنه المهدى المنتظر الذى سيملأ الدنيا إسلاما، وبمقدار إيمانه بفكرته كان مقدار تأثيره على الشباب المتعطش للإيمان.
بعد أيام من لقاء الزعفرانى بمشهور وفى بيت عائلته الكائن بإحدى ضواحى الإسكندرية استضاف خالد الزعفرانى شيخه الجديد شكرى مصطفى ليقضى بينهم يوما أو بعض يوم، وحين رآه العم «خليل الزعفرانى» أوجس منه خيفة وقال لابنه إبراهيم الطالب فى كلية الطب الذى أصبح أحد رموز جماعة الإخوان فى ما بعد: هذا الشاب الذى استضافه ابن عمك خالد له سحنة لا أستريح لها، خذ حذرك يا بُنى من هذا الشاب فما فى قلبه من شر يبدو واضحا فى وجهه، وأنا قرَّاء وجوه. وفى المساء دار حوار فكرى بين أبناء عائلة الزعفرانى والشيخ الشاب شكرى مصطفى، أصر فيه الشيخ على تكفير مرتكب الكبيرة، فى حين رد عليه بعض شباب العائلة وعلى رأسهم حمزة خليل الزعفرانى الذى استُشهد فى ما بعد فى حرب 1973، بأن «هذا الفكر غير صحيح، فالرجل يدخل الإسلام بقوله لا إله إلا الله، ويظل على إسلامه ما دام معتقدا فى الشهادة، فإذا ارتكب كبيرة فإنه لا يخرج من الإسلام ولكنه يتلقى العقاب الذى توعده به الله سبحانه فى الدنيا والآخرة»، وفى اليوم التالى خرج شكرى مصطفى من بيت آل الزعفرانى وهو لا يصطحب معه من المصدقين به إلا الشاب خالد الزعفرانى، فقد كانت شهادة الحاج مصطفى مشهور فى شأن شكرى مصطفى كفيلة بأن يظل مرهونا معه حتى حين، وحين أذن الله خرج خالد الزعفرانى من فكر شكرى مصطفى ووقف ضده وأقنع عددا من الشباب باعتزال هذا الفكر الخوارجى، وكان من هؤلاء الشباب الطالب صلاح الصاوى الذى أصبح دكتورا فى الشريعة وداعية إسلاميا كبير ورئيسا لجامعة إسلامية فى ما بعد، وطالب الطب عبد الجواد الصاوى الذى أصبح أمين عام هيئة الإعجاز العلمى للقرآن فى ما بعد، والطالب عبد الله سعد صاحب منتجعات الريف الأوروبى فى ما بعد.
وفى حضن عام 1977 فعلها شكرى، بدأ فى تطبيق أفكاره تطبيقا عمليا، هو الآن يعيش فى دولة فريدة من نوعها، كأنها دولة الإسلام الأولى، تسربل شكرى بزمن «الدعوة السرية» والعزلة عن ذلك المجتمع الجاهلى الكافر، أوصى بعض أصحابه بأن يخفوا إسلامهم، وقال لهم إذا ضُيق علينا فهاجروا إلى اليمن، فإن لم تستطيعوا فإلى السعودية أو إلى أى دولة تصلح لإقامة دولة الإسلام، لا يقوم الإسلام إلا بالهجرة كما قام فى زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم أضمر شكرى فى نفسه شرا، فرأى أن يضع أول بصمة لدولته، لن تقوم دولة الإسلام إلا بأن يُهرَق دم على أعتابها، والدم الذى سيهرقه هو دم الكافر الذى يحارب الإسلام ويكتب الكتب «ضد إسلامه»، الكافر هو الشيخ الذهبى وزير الأوقاف الذى حارب أفكار شكرى، هو كافر من ناحية وصيد ثمين وسهل من ناحية أخرى، وقام شكرى بتنفيذ خطته، خطف الشيخ البرىء المسالم، ثم أمر أحد رجاله بأن يطلق رصاصة على رأس الشيخ فأودت بحياته.
حمد خالد الزعفرانى ربه على أنه تنبه مبكرا لخطورة فكر شكرى، حتى إنه كان أول من كتب فى الصحف منبها للقنبلة التى يختزنها هذا الشيخ السطحى الغر فى عقله، قنبلة التكفير، كان خالد هو من واجه شكرى علنا وقال له: إنك خوارجى تنتمى إلى فكر الخوارج ولست على فكر أهل السنة والجماعة، لقد اشتطّت بك الأفكار يا شكرى فأخرجتك عن الطريق الصحيح، ولكن الدنيا بمسارها وتقلباتها وغدوِّها ورواحها ما زالت تقدح فى ذهن خالد الزعفرانى، ما السبب الذى جعل الحاج مصطفى مشهور وجمهرة من إخوانه يمتدحون أفكار شكرى مصطفى؟ وكيف أصبحت أفكار شكرى مصطفى متوهجة داخل جماعة الإخوان لدرجة أن بعض قيادات الشباب فى الإسكندرية استحلُّوا الزنى بالأجنبيات وغير المسلمات تطبيقا لفتاوى كان شكرى مصطفى قد أصدرها وهو يقيم الركائز الفكرية لدولته؟
صورة أرشيفية
مدير أمن النادى كان يفتح لنا الأبواب بعد منتصف الليل بعد أن ينصرف الرواد
لذلك أشاعت جلساتى مع الأستاذ أبو غالى جوا نورانيا دافئا رغم برودة شتاء عام 2003، وفى جلسة ذهنية وفكرية ممتعة قال الأستاذ وكأنه يحدث نفسه، وكأن أحدا لا يجلس معه بالمرة:
ولكأنما كانت سنة 1967 شديدة الوطأة على التاريخ، فمع هزيمة يونيو خرج إلى الوجود رأس ثعبان أخذ ينفث سمه فى عقول الشباب، ومن عجبٍ أن هذا الثعبان ما فتأ يظهر فى كل جيل منذ عصر الصحابة إلا أن العلم الراسخ كان يقهره، ظهر هذا الثعبان فى زمن الخليفة على بن أبى طالب رضى الله عنه، وقهره الصحابة رضوان الله عليهم، ومع ذلك ظل فى مكمنه يترقب ويناور ويخطط، حتى إذا ما رأى فرصة سانحة انقض على العقول يلدغها وينفث فيها ريح السَمُوم فيحيلها أثرا بعد عين.
ويا للمفارقات الساخرة، لقد كان هذا الثعبان صواما قواما قراء للقرآن باذلا النفس فى سبيل فكرته، شجاعا، إلا أن القرآن كان لا يجاوز حنجرته، ولا يصل إلى فؤاده، يأخذه بظاهر اللفظ ولو كان اللفظ مجازيا، تركيبة عقله العصبية تدفعه إلى العنف وتدل على افتقاده لمهارات فهم اللغة ومراميها فلا يستطيع أن يُفرِّق بين الحقيقة والمجاز، يغشاه اضطراب فى المعرفة، ولعل شجاعته كانت ناتجة من نقص بنيته المعرفية التى جعلته لا يتعرف على مواطن الخطر فيلقى بنفسه إلى التهلكة، ولذلك كان هذا الثعبان البشرى هو أول ظهور فى البشرية لمرض «التوحد» الذى يُحدث خللا فى السلوك الاجتماعى والمهارات اللغوية، ويفقد صاحبه القدرة على التواصل مع الآخرين، خذها ملحوظة عندك يا ثروت، اكتب أننا لكى نستطيع تحليل ظاهرة ما يُسمى بالجماعات الإسلامية تحليلا علميا دقيقا فإننا يجب أن نعرض تلك الجماعات على الطب النفسى، ومع ذلك فلك أن تعرف أن هذا الثعبان خرج فى زمن سيدنا على كرَّم الله وجهه، خرج معه مقاتلا فى خلافه مع سيدنا معاوية بن أبى سفيان، وكان مقاتلا شجاعا صنديدا عنيدا، وحين رفع جيش معاوية المصحف طلبا للتحكيم ألزم سيدنا على بالموافقة على التحكيم، ثم خرج عليه فى نهاية الأمر لأنه وافق على التحكيم! فكان هذا الثعبان خارجا مع على ثم خارجا على على، فكانت «الخوارج».
وحين اشتط بهم الفكر وخرجوا بالأمة إلى فكر التفكير أرسل لهم سيدنا على بن أبى طالب سيدنا عبد الله بن عباس حَبر هذه الأمة ليناظرهم، هل قرأت من قبل هذه المناظرة أو عرفت خبرها؟ إنها مناظرة فريدة لن أقص عليك تفصيلاتها، لكنه هزم منطقهم بالقرآن الكريم الذى كانوا يحفظونه ولا يفهمونه.
■ ■ ■
اعتدل الأستاذ أبو غالى فى جلسته وعاد بى إلى ذكرياته، إذ كان فى السجن معتقلا مع الإخوان على أثر قضية تنظيم سيد قطب عام 1965، تركته دون أن أقاطعه يفيض بما لديه، أحمل فقط مفكرتى أدون بها بعض الملحوظات، قال الأستاذ:
صراخ وأنين فى باحة السجن فى أثناء فترة الفسحة، فقد نشبت معركة حامية الوطيس بين مجموعة من المساجين، أشعل أوار هذه المعركة خلاف فقهى بينهم، قال نفرٌ من الذين انشدهوا لفكر الشيخ على إسماعيل والشاب شكرى مصطفى بتكفير الإخوان المسلمين ورفضوا الصلاة معهم فى جماعة، وثار الإخوان على هؤلاء النفر، وقالوا لا تكفير لمسلم، ومن رمى أخاه بالكفر فقد باء بها، ودارت بينهم رحى معركة فكرية ضروس انقلبت إلى ضرب وركل ولكم وجروح، وقف شكرى مصطفى بعيدا عن المعركة الدائرة ينظر إليها ويتفرس فى مستقبل أفكاره، ووقف معه ثلاثة من الرفاق كانوا يرغبون فى نصرة إخوانهم، لكنه أوقفهم قائلا: ليست هذه مهمتكم، ستكون لكم مهمة أسمى وأعلى، لا تنصروا الإخوة، لكن انصروا الدعوة.
استرسل الأستاذ أحمد إبراهيم فى قصته: احمر وجه شكرى مصطفى وانقدحت عيناه حينما رأى أحد الذين يضربون أعوانه واسمه على ما أذكر عبد الحميد، كان عبد الحميد هذا مع شكرى مصطفى دوما، بل كان من أعوانه الذين يتلقون منه، وفى يوم ضيَّق عبد الحميد على شكرى الخناق فى جدل احتدم بينهما، فتخلص شكرى من الجدل بأن قال لعبد الحميد أنت كافر فقام عبد الحميد ممسكا بخناق شكرى، وانهال عليه ضربا حتى كاد يودى بحياته، لكن الله قيض له مجموعة من الإخوان قاموا بتخليصه منه، ومن وقتها انقلب عبد الحميد على شكرى، وأصبح خصما لدودا له.
أكمل الأستاذ: لم يحب شكرى أحدا ممن التقى بهم فى السجن قدر حبه للمحمدين، والمحمدان هما «محمد ومحمود»، كان أحدهما أصغر منه بعام وهو محمد، أما محمود فقد كان أصغر منه بعامين، ولم يحترم شكرى مصطفى أحدا ممن التقى بهم فى السجن قدر احترامه للشيخ على إسماعيل، ولم يهب أحدا ممن التقى بهم فى السجن قدر هيبته من مصطفى مشهور، ورغم أن على إسماعيل خلع نفسه من أفكار «التوقف والتبين» والتكفير بالمعصية بعد أن جلس مع حسن الهضيبى فى أحد أيام السجن، وكان ذلك بأن صلى معنا الفجر جماعة ثم بعد الصلاة قال لنا: لقد تبين لى أن الفكر الذى كنت عليه هو فكر الخوارج، وهو فكر يفرق الأمة ويقضى على الجماعة، لذلك أنا أخلع هذا الفكر، ثم قام بخلع جلبابه وهو يقول: كما أخلع هذا الجلباب.
كان الأستاذ أبو غالى يحكى قصة شكرى مصطفى مع الإخوان فى السجون بجاذبية مذهلة تجعلك لا تسمع غيره، ولا تلتفت إلى أى صوت يمر على أذنيك، وما ذلك إلا لأن الحاكى يحكى بكيانه ومشاعره، فترى انفعالاته وهدوءه وكأنها أشخاص يحركها الحاكى فتثبت فى ذهنك، وهكذا كان عهده معنا حينما كنا نتلقى منه العلم ونحن فى المرحلة الثانوية.
سألته عندما أيقنت أنه توقف عن الحكى: قرأت عن على إسماعيل من قبل، لكن من هما المحمدان؟
ابتسم الأستاذ وأومأ برأسه وهو يقول: كنت أعرف أنك ستسأل هذا السؤال، وعهدى معك أن أحكى ما ينفعك فى الوقت الذى ينفعك، فلرب علم يضر اليوم وينفع غدا.
قلت: ولما؟ وما الضرر فى المعرفة؟!
قال: لو قتل رجلُ رجلا فقال أحدهم لابن القتيل بعد القتل مباشرة سأدلك على قاتل أبيك، أترى هل نفعه أم أضره؟
قلت: نفعه فقد علم منه قاتل أبيه.
قال: فإذا كانت مشاعر ابن القتيل مهتاجة منفعلة فى قمة ثورتها وغضبها من القاتل، فماذا فاعل هو؟
قلت: فى الغالب سيثأر من قاتل أبيه.
هو: فيكون قاتلا.
أنا: فهمت المثل، لكننى لم أفهم ما وراء المثل، فلم يقتل أحدهم أبى رحمة الله عليه، فبعد أن صلى العشاء ونام على شقه الأيمن توفاه الله.
هو: ألم تترك الإخوان قريبا؟
أنا: وما دخل هذا بذاك؟
هو: قد لا تستطيع رؤية انفعالاتك، لكننى أراها، ما أشد وطأة الظلم على النفس، وأنت مظلوم.
أنا: نعم، لكن ما دخل هذه المعرفة بهذا الظلم؟
هو: ستعرف حين يحين الحين.
أنا: لكن أليست هناك أمارة عليهما؟
هو: شغفك بالمعرفة يقتلك.
ثم تابع حديثه: هما يا بنى من بايعا شكرى مصطفى وأخذ منهما العهد، هما من رجاله الأخفياء، وقد أمرهما أن يخفيا إسلامهما، فقد تلبست شكرى فكرة أن الإسلام غاب عن الدنيا، وأن من اتبعه ودخل فى زمرته فقد أصبح مسلما حقا، وأوحى له شيطانه أنه هو الذى سيعيد الإسلام إلى العالم مرة أخرى، وآمن معه أصحابه بهذه الفكرة التى هى أصلا من نبت الخوارج، لكن شكرى زاد عليها، وأخذت به الظنون مبلغا حتى وقع فى يقينه أن الله سيعيد به قصة الغلام والراهب التى نزلت بشأنها سورة «البروج»، كان هذا الفتى المسكين يظن أنه سيكون من أصحاب الأخدود، وكان يخاتله ظنه أحيانا أن الله سينجيه، ثم تغلب عليه قصة الغلام والراهب فيستقر فى قلبه أنه سيُقتل فى سبيل نشر الإسلام بين أهل الكفر، فقال لصاحبيه: إذا قضى الله أمرا، وقتلنى أهل الكفر فسافرا إلى اليمن، فمن هناك سينطلق نور الإسلام.
كان لليمن مكانة كبيرة عند شكرى مصطفى، وقد سافر المحمدان فعلا إلى اليمن تنفيذا للأمر الشكروى، بل إن مصطفى مشهور بنفسه أحب اليمن من حب شكرى مصطفى لها وسافر إليها كثيرا، هل أزيدك من الشعر بيتا؟ كانت اليمن حلما لكل من فكر فى إقامة دولة الإسلام، ولحسن البنا قصة حب وعشق مع اليمن.
قلت له: وهل كان الحاج مصطفى مشهور متأثرا بشكرى مصطفى؟! وما علاقة الشهيد حسن البنا بهذا الأمر!
قال: اليمن عندهم هى الإسلام.
■ ■ ■
بعد أن انتهى درس الدكتور جمال عبد الهادى انصرف الرجل وظللنا بالشقة التى انعقدت فيها الكتيبة إلى أن صلينا الفجر، قطعنا الوقت كله فى قيام الليل ولم ننم إلا ساعتين فقط، لكننى لم أنم، ففى تلك الأيام من شتاء 1989 دعانى أخ من الإخوان المقربين إلى قلبى اسمه عادل السودانى لحضور تدريبات رياضية فى نادى الشمس، يعقبها مبارة فى كرة القدم، استجبت إلى دعوته وانتظمت فى هذه التدريبات، وكانت معى مجموعة من الإخوان وبعض أفراد لم أكن أعلم هل ينتمون إلى الإخوان أم لا، وكان ينظم هذه التدريبات أخ اسمه مصطفى، لم تكن هذه التدريبات عادية فقد كانت أبواب نادى الشمس تُفتح لنا بعد منتصف الليل، بعد أن ينصرف كل رواد النادى، وكان الذى يفتح لنا النادى بعد إغلاقه أحد الأعضاء البارزين فى النادى وهو المرحوم أشرف فوزى الذى كان بطلا من أبطال إفريقيا فى رياضة الجودو وقتها، وكان يقوم بأعمال مدير أمن النادى، وكنا نجرى تدريبات رياضية متنوعة منها السباحة، وكان أشرف فوزى يعطى تعليماته لمشرف حمام السباحة بتسخين ماء الحمام إذ إننا كنا فى شهر الشتاء، وكنا نتدرب أيضا على رياضة الكونغوفو، حيث كان يقوم بتدريبنا عليها أخ كان بطلا لمصر، وكانت له شهرة كبيرة فى هذه الرياضة اسمه أحمد، وأحيانا كان يحضر لهذه التدريبات أخ من أبطال رياضة الكاراتيه اسمه أيمن، وقد كان بطلا لمصر فى هذه الرياضة، وظللت على هذه التدريبات فترة إلى أن وجدت أنهم أصبحوا يذهبون دون أن يخبرونى فلم أدر وقتها سبب استبعادى، كما أننى لم أكن أعلم أنها تدريبات تتم بشكل تنظيمى أو بترتيبات إخوانية، كنت أظنها مجرد توافق بين مجموعة من الصحاب على ممارسة الرياضة، لكن كلمات الدكتور جمال عبد الهادى الأخيرة أثارت فى نفسى الشكوك حول أن هذه التدريبات الرياضية كانت تدريبات إخوانية منظمة بهدف الاستعداد ليوم التمكين.
■ ■ ■
عندما قال لى أحمد ربيع ونحن نتحاور فى مكتبه: «كلنا يبحث عن المربع الناقص» قلت له:
وهل عندك هذا المربع الناقص؟
قال: ليس بالضبط، لكن هناك أسرار عرفتها بمحض الصدفة قد تقودنا إلى المربع الناقص.
ـ مثل؟
ـ فى عام 1992 عندما اجتمع بنا المستشار مأمون الهضيبى والحاج مصطفى مشهور من أجل إقناعنا بالعدول عن الشورى التى أجريناها، التى انتهت بخروج أحمد سيف الإسلام حسن البنا من قائمة المرشحين للنقابة العامة للمحامين.
ـ أذكر أننا لم نعدل عن الشورى، لكن المستشار مأمون هو الذى قام بإلغاء هذه الشورى، وقد كنت حاضرا فى جلسة من هذه الجلسات.
ـ نعم، لكنك لم تكن حاضرا الجلسة التى أعنيها.
ـ ما الذى حدث فيها؟
ـ كان الاجتماع منعقدا فى مكتب مختار نوح، وكان الحوار محتدما فقد كان المستشار مأمون يصر على أن يكون أحمد سيف الإسلام مرشحا للإخوان رغم أنه لم يحصل إلا على صوت واحد فى الشورى التى أجريناها، أخذ المستشار يضع الحجج والبراهين على ضرورة أن يكون أحمد سيف الإسلام مرشحا لنا، وفى أثناء الحوار أراد الحاج مصطفى مشهور أن يؤكد منطق المستشار فقال إن اختيارنا سيف ضرورة، لأنه ابن البنا، وإننا بهذا الاختيار نفعل مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أشار له البعض بقتل المنافقين فرفض حتى لا يقال إن محمدا يقتل أصحابه، وللأسف لم ينطق أحد من الإخوة تعقيبا على هذا الاستدلال فقلت للحاج مصطفى إن هذا القياس فاسد إذ من الأولى أن نقيس بحديث لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها، وهنا يا مولاى كأنك قلبت الدنيا على رأسى قام خالد بدوى شاخطا فىَّ قائلا: قياس فاسد! هل هذه طريقة تخاطب بها الحاج مصطفى قم يا ولد وقبل يد أبيك الحاج مصطفى، معتذرا عن هذه الفظاظة، وانبرى محمد طوسون بدوره معنفا وكأننى ارتكبت جرما، أما مختار نوح فقد قال بوسطيته إن أحمد لم يقصد، فضحكت فى وجوههم مستسخفا إياهم وقلت بل أقصد، وتكهرب الجو.
ـ أعرف هذه القصة فقد باتت من القصص المشهورة وتحدثت كثيرا بخصوصها مع مختار، لكن أين المربع الناقص؟
ـ فى هذا الاجتماع قلت للحاج مصطفى مشهور إننا يجب أن ننشئ تنظيما لنا داخل الجيش، وإننا يجب أن نعيد الحياة لقسم الوحدات، فقال الحاج مصطفى متسرعا: أنشأناه، فأسكته المستشار مأمون فورا حتى قبل أن يكتمل خروج الكلمة من فم الرجل وقال: انت عاوز تخرب بيتنا يا أحمد يا ربيع يا متفذلك، لا يمكن أن نوافق على العمل داخل الجيش، هذا أمر شديد الحساسية ولو فعلناه لقضينا على تنظيم الإخوان فعلا، أنسيتم نهاية تنظيم الفنية العسكرية وصالح سرية وجماعة شكرى مصطفى، إدخال العمل المسلح فى الجماعة هو حكم بالإعدام على الجماعة كلها، ولن يكون هذا مسلكنا.
ـ هكذا يكون المستشار مأمون أنكر تماما.
ـ ولكن الحاج مصطفى أقر وعاجله المستشار مأمون بالإنكار وكأنه كان ينبهه على خطر الإفصاح أمامنا عن هذا الأمر.
أضفتُ إلى ما قاله: كنت أتعجب من قرار قسم التربية بجعل رسالة التعاليم من ضمن مناهج التربية لكل الإخوان، وهى رسالة كتبها حسن البنا لأفراد النظام الخاص فقط، هى رسالة حربية للنظام المسلح.
قال أحمد بصيغة التأكيد: إذن ضع روايتى هذه بجانب ما لديك من قرائن وأدلة وستتيقن أن الإخوان لديهم تنظيم مسلح، نظام خاص جديد.
ـ ليس هذا فقط، لكن أكاد أقسم وفقا لهذا أن الإخوان لديهم تنظيم داخل الجيش.
ـ الإخوان لديهم أخطر من ذلك.
قلت له وقد انتبهت كل حواسى: ما هو؟ هل لديهم قنبلة؟
قال أحمد وهو يلعب بأعصابى: بل أخطر من القنبلة.
الحلقة القادمة الأربعاء المقبل
مواطن يحمل يافطة جهاز أمن الدوله المنحل بعد اقتحامه
الحاج جمعة أمين قال فجأة: عندكم عبد المنعم الحلوانى رئيس نيابة أمن الدولة عقدت معه صداقة قوية واستضفته فى بيتى وشرحت له الأصول العشرين للإمام البنا واقتنع تمامًا بدعوة الإخوان
أحمد ربيع: وهل تظن أننا ما زلنا على الفكرة الأولى التى بدأ بها حسن البنا؟
قلت: جلستُ مع أبو العلا ماضى كثيرا فى الفترات الأخيرة وهو على وشك أن يؤسس مع الدكتور العوا جمعية ثقافية، وقد قال لى كلاما كثيرا فى هذا المجال، قال إن هذه ليست هى جماعة الإخوان التى يعرفها، وقال تحديدا: إن جماعة الإخوان مثل القطار الذى كان متجها إلى مدينة ما فقام بعض الأشرار باختطاف القطار وتغيير مساره، ولكننى أرجعت هذا الكلام إلى خلافه مع الجماعة فى مسألة إنشاء حزب الوسط.
أحمد ربيع: وهل أبو العلا فقط هو الذى قال هذا الكلام؟
قلت: لا، لقد تناقشت مع عصام سلطان فى أشياء كثيرة عن حزب الوسط وكان ينهى حواراته معى دائما بعبارة ما زال يكررها كثيرا، هى إن «جماعة الإخوان تقودها الآن مجموعة من الأغبياء الذين لا يفهمون، ولو فهموا لماتوا»، وإن «الجماعة انته ت بوفاة الأستاذ عمر التلمسانى وأن مَن يدير الجماعة الآن هم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع»، ولكننى اعتبرت أن عصام قال هذا الكلام وهو تحت وطأة الانفعال من رد فعل الجماعة على إنشاء الحزب، كما أن هذا الكلام لا علاقة له بالفكرة بقدر ما هو متعلق بالإمكانيات.
أحمد ربيع: سأتركك تتذكر وأنا أثق فى ذاكرتك، هل تذكر شهر نوفمبر من عام 1995، هل تتذكر ما الذى حدث فيه؟
وقبل أن أجيب، استأذن أحمد ربيع ليذهب إلى غرفة مكتبه حتى يقضى بعض شؤون المكتب، أما أنا فذهبت بذاكرتى إلى شهر نوفمبر من عام 1995.
كان هذا الشهر قاتما كئيبا، يكفى أنه تم القبض فيه على بعض رموز الجماعة، وكانت التحقيقات فى نيابة أمن الدولة تجرى على قدم وساق، كان عدد المقبوض عليهم كثيرا، وكان منهم عبد المنعم أبو الفتوح ومحمود عزت وغيرهما كثير، وكان من نصيبى أن حضرت التحقيق مع أبو الفتوح، كان رئيس نيابة أمن الدولة الذى أجرى التحقيق اسمه عبد المنعم الحلوانى، وقد كان متعاطفا جدا معنا، وسمح لى بمساحة كبيرة فى المرافعة بعد أن انتهى من استجواب أبو الفتوح، وأذكر أن وكيل النيابة قال لنا بعد أن أخرج سكرتير التحقيق: إن قرار الحبس قد صدر بالفعل وأنه لا يملك شيئا حيال ذلك، وإنه يأسى لما يحدث للإخوان.
كان عجبى وقتها كبيرا أن أجد أحد رؤساء نيابة أمن الدولة الكبار متعاطفا مع الإخوان إلى حد أن يبدى لنا خيبة أمله لأنه لا يستطيع أن يفعل شيئا حيال قرار حبس الإخوان احتياطيًّا على ذمة التحقيق، وفى ما بعد زال عجبى عندما كنا وبعض الإخوان فى رحلة صيفية إخوانية إلى الإسكندرية، وفى نادى الأطباء بمنطقة «سابا باشا» تقابلنا مع الحاج جمعة أمين عضو مكتب الإرشاد الذى يُطلق عليه فى الإخوان «الحارس الأمين على الأصول العشرين» وجرَّنا الحديث عن القضايا العسكرية التى بدأ النظام يواجه الإخوان بها إلى تحقيقات نيابة أمن الدولة التى تجريها مع الإخوان وقرارات الحبس «سابقة التجهيز»، حينها قال أحد الإخوة للحاج جمعة: هؤلاء هم طواغيت هذا الزمان.
فقال له الحاج جمعة بصوت تعمّد أن يكون خافتا وكأنه يدلى بسر خطير: ليسوا جميعا، فالله قد هدى البعض.
رد فجأة أخ من الجالسين من إخوان الإسكندرية اسمه المهندس علِى، كان يعمل موظفا فى إحدى النقابات: هل أسلم بعضهم؟!
ارتسمت على وجهى ابتسامة واسعة وأنا أتذكر تلك الأحداث وأسترجع ذلك اللقاء، فقد أيقنت بعد كلمة الأخ علِى الغريبة على مسامعى أننى لو نظرت إلى وجهى فى المرآة لوجدت عيونى قد أصبحت مثل علامة التعجب من فرط اندهاشى وانشداهى، حتى إننى ضحكت وقتها أمام الجالسين من كلمة الأخ علِى، أيعقل أن يكون أحد الإخوة يتحدث عن مسلمين مثلنا فيقول عنهم: هل أسلموا!! نظر الإخوة إلىّ وهم يستغربون ضحكتى، فقلت وأنا أقطع ضحكتى: لا تؤاخذونى يا جماعة فقد تذكرت فيلم «فجر الإسلام» عندما قال الممثل الذى أدى الدور وهو يكسر الأصنام «شُلَّت يدى»، ففرح الكفار، ففاجأهم وهو يغيظهم «إنها سليمة».
لم يأبه الحاج جمعة أمين لضحكتى وقال وصوته يزداد خفوتا: عندكم عبد المنعم الحلوانى رئيس نيابة أمن الدولة، لقد عقدت معه صداقة قوية واستضفته فى بيتى أياما عندما جاء إلى الإسكندرية هذا الصيف، وشرحت له الأصول العشرين للإمام الشهيد حسن البنا، وقد اقتنع تماما بدعوة الإخوان، وقد أوصلته إلى بعض الإخوة ليتابعوا معه، وأيضا إخواننا فى القضاة «بيشتغلوا دلوقت على مستشار اسمه الخضيرى» وأخونا المستشار مصطفى الشقيرى ربنا يكرمه، هل تعرفونه؟
فقلت له: نعم أعرفه فقد كان معى فى شُعبة الزيتون وانتقل معى إلى إحدى شُعب مدينة نصر.
فأكمل جمعة أمين حكايته، وقال: مصطفى الشقيرى عامل شغل كويس مع القضاة.
قال الأخ المهندس علِى الذى سأل «هل أسلم بعضهم»: أنا أعرف أن الأخ الدكتور سعد زغلول العشماوى هو ابن عم وكيل نيابة اسمه أشرف العشماوى وأنه عامل معاه شغل.
توالت الصور والأحداث على ذاكرتى وكأننى أشاهدها شاخصة أمام بصرى، وكانت الصورة التى تذكرتها وجعلتنى أهب واقفا، صورة الحاج جمعة وأنا أصطحبه فى سيارتى لأوصله إلى بيته وكان معنا فى السيارة أخ من إخوان الإسكندرية أذكر أن اسمه جمال عبد المنعم، وإذ أردت أن أقطع الصمت الذى ساد بيننا فى السيارة فسألت الحاج جمعة: ولكن ليس بالقضاة فقط نستطيع أن نصل للتمكين، فرد الحاج جمعة بثقة: نحن ننشئ يا أخى مدارس نربى فيها الجيل الجديد، فقلت له: ولكن هذا أيضا لا يكفى، فرد بثقة: بلاش طمع، اعتبر أننى لم أقل لك أننا وصلنا بالفعل إلى الجيش، فهتفت وأنا أقول له بدهشة: هل لنا نشاط فى الجيش، فرد قائلا: أنا لم أقل شيئا، افهمها كما تريد.
وحين انتهيت من ذكرياتى التى كانت ماثلة فى ذهنى بالكلمة والصورة والحرف أمسكت قلما وورقة ورسمت عدة مربعات وأخذت أصلها ببعض، بحيث حرصت على أن تصل الخطوط إلى كل المربعات دون أن تتقاطع مع بعض، ولكن فى كل مرة أجد أننى فشلت فى وصل المربعات وفقا لقاعدة تلك اللعبة، وإذ دخل علىَّ أحمد ربيع وقد فرغ من شؤون مكتبه قال لى: ماذا تفعل، تلعب لعبة المربعات؟!
قصصت على أحمد ذكرياتى التى استجلبتها ذاكرتى ثم قلت له: أحاول أن أجعل المربعات التى فى الورقة متصلة بخطوط دون أن تتقاطع، وقبل أن تدخل عرفت سبب فشلى، فهناك مربع ناقص.
قال أحمد ربيع: كلنا يبحث عن هذا المربع الناقص.
■ ■ ■
لم تكن هزيمة 1967 مجرد هزيمة عسكرية وقعت على رأس مصر، وليتها كانت كذلك، ولكنها كانت نكبة اجتماعية خلّفت وراءها آثارا خطيرة، عضّت هذه الهزيمة بنواجذها نفوس الشباب فوقعوا أسرى فى مشاعر القهر وانتبهوا إلى أنهم يتنفّسون فى بلادهم دخان الاستبداد، والنفس المقهورة تعيش فى سجن نفسى قسوته طاغية، فهى تشعر بالعجز أمام العدو الخارجى الذى قهرها، والضعف أمام الحاكم المستبد الذى امتلك مقاديرها فتحكَّم فيها، فما بالك إذا وقع الإنسان بين هذا وذاك وهو فى السجن يجرع ويلات التعذيب؟ حينئذ يشعر المقهور بأنه لا شىء، بأنه بقايا إنسان عاجز ذليل مهان، ولكن هذا الشعور لا يستمر أبدا، فالنفس الإنسانية لها وسائلها للدفاع عن الذات، ولكى تستعيد توازنها النفسى فإنها تثأر لذاتها التى تعرضت للقهر والمهانة والتحقير فتستعلى على الآخرين وتحتقرهم، وبذلك يتحول هذا الإنسان المقهور إلى صورة من قاهره المستبد، وبعد أن كان يرى نفسه قد أصبح عبدا أو أقرب إلى العبد إذا به يشعر بسيادة كاذبة، يكره من خلالها قومه الذين لم يقفوا معه حين استبد به المستبد، ويكره وطنه المقهور بالهزيمة، فيسعى إلى الهجرة الحقيقية أو الهجرة الشعورية والعزلة عن المجتمع التى يتصور أنها ستكفل له الحماية والصيانة، وما يصدق على الأفراد يصدق أيضا على الجماعات والتكوينات البشرية، لذلك فإن أى جماعة ظلت عمرها تحت ركام الاستبداد والقهر لا بد أن تتحول إلى جماعة مستبدة إذا ما حكمت، ستتحول دون أن تشعر إلى نسخة أخرى من المستبد الذى قهرها ، كل التاريخ كان كذلك.
■ ■ ■
فى حر يوليو من عام 1967 وفى أحد السجون المصرية جلس الشاب الغامض صاحب النظرات العميقة الحادة والشعر الأسود المفروق من منتصفه مع مجموعة من المساجين من شباب الإخوان، كلهم سُجنوا لأنهم كانوا فاعلين فى تنظيم سيد قطب، كلهم عانى من القهر والاستبداد والشعور بالمهانة والذلة تحت وطأة التعذيب.
لا شك أن هزيمة يونيو أصابت المسجونين بمشاعر مختلفة، شعر بعضهم بالأسى والمرارة، وصبوا نقمتهم على الحاكم الذى رأوا أنه خرج عن الإسلام فأصاب البلاد فى مقتل، وشعر البعض الآخر بالفرحة فى هذا الحاكم الذى رأوا أنه كان من ألد أعداء الإسلام، وقالوا: هزمه الله وهزم شعبه الذى خرج عن طريق الإسلام وخضع لحاكمه الكافر المستبد، وما هذا الشعب إلا شعب فرعون الذى استخف قومه فأطاعوه.
تحدث الشاب الغامض بلسان طلق بليغ، وقال للشباب الذين يجلسون معه: لا يظن أحدكم أن أمة يهود هى التى هزمت جمال عبد الناصر، ولكن الله هو الذى هزمه لأنه كفر بالله رب العالمين.
كيف عبد الناصر كافر؟!: سأله أحد الشباب الذين يتحلقون حوله.
ليس عبد الناصر وحده الذى كفر ولكن الشعب كله كفر، فعبد الناصر المستبد يحكم بغير ما أنزل الله، والشعب الخانع البليد وافقه على ذلك، ومن وافق على الكفر فقد كفر: قالها الشاب الغامض بنبرته الحادة التى تتداخل العصبية معها.
ثم استرسل: المعصية أيضا تورث الكفر.
قال شاب من الجالسين نحيف البدن لوحت الشمس وجهه بسمرة خفيفة: ولكن أحدا من العلماء لم يقل ذلك!
رد عليه الشاب الغامض: أنت من إخوان المحلة، أليس كذلك؟ ومع ذلك تركت بلدك وتدربت على السلاح معنا فى قرية الزوامل بـ«إنشاص الخاصة» بالقرب من معسكرات الجيش وفى حدائق الإصلاح الزراعى، وكان الناس يظنوننا من أفراد الجيش، فهل كنت تفعل ذلك لمحاربة اليهود؟ أنت فعلت ذلك للقضاء على حاكم كافر، ومن بعده سيكون الإسلام خالصا نقيا، ومع ذلك يا أخى فإن الشهيد سيد قطب يقول بكفر من ارتكب معصية ثم لم يتب إلى الله رب العالمين، ألم تقرأ قوله عن المعصية فى تفسيره لآيات المواريث؟
رد الشاب المحلاوى: لا، لم أقرأ إلا «معالم فى الطريق».
أشار إليه الشاب الغامض بكف يده علامة أن أنصت: إذن اسمعها منى، قال الشهيد: «يترتب على تعدى آيات المواريث وعصيان الله ورسوله فيها النار والخلود والعذاب المهين».
سكت الشاب الغامض قليلا وأطرق إلى الأرض ثم عاد إلى استرساله قائلا: ثم يسأل الشهيد عن سبب هذا الخلود فى النار، فيقول: لماذا تترتب كل هذه النتائج الضخمة على طاعة أو معصية فى تشريع جزئى كتشريع الميراث، وفى جزئية من هذا التشريع، وحد من حدوده؟
إن الأمر فى هذا الدين بل فى دين الله كله منذ أن أرسل رسله إلى الناس منذ فجر التاريخ هو: لمن الألوهية فى هذه الأرض؟ ولمن الربوبية على هؤلاء الناس؟ وعلى الإجابة عن هذا السؤال فى صيغتيه هاتين يترتب كل شىء فى أمر هذا الدين، وكل شىء فى أمر الناس أجمعين!
فإذا كانت الألوهية أو الربوبية لأحد من خلق الله، فهى الدينونة من العباد لغير الله وهى العبودية من الناس لغير الله، وذلك بالاتباع للمناهج والأنظمة والشرائع والقيم والموازين التى يضعها ناس من البشر، ومن ثم فلا دين، ولا إيمان، ولا إسلام، إنما هو الشرك والكفر والفسوق والعصيان.
وهنا أسكته رجل صاحب وجه وضىء فى منتصف العقد الرابع من عمره: صه يا أخى ما هكذا تورد الإبل، مع حبنا للشهيد سيد قطب رحمه الله إلا أن هذا ليس هو فكر الإخوان ولا منهج الإخوان.
رد الشاب الغامض بنبراته الحادة العصبية: وبماذا تبرر الخلود فى النار لمن يعصى الله إذن فى أى حكم من أحكام المواريث.
قال الرجل الوضىء بنبرته الهادئة الواثقة: إنما يكون هذا عند كفر التكذيب والإنكار والجحود.
رد الشاب الغامض على الرجل الوضىء: لا أراك على حق يا أستاذ أحمد.
قال الرجل الوضىء: مصطفى مشهور ليس على رأى الشهيد سيد قطب.
رد الشاب الغامض بحدة: أنت لا تعرف يا أستاذ أحمد شيئا، مصطفى مشهور يستخدم التقية، هو معنا فى عقيدتنا.
الرجل الوضىء: المرشد حسن الهضيبى يقول مثل قولى.
أنهى الشاب الحوار بقوله: الهضيبى كافر، وإن كتب الله لك عمرا سترانى وأنا أحكم العالم بالإسلام، سيقول العالم إن شكرى مصطفى هو من ميراث النبوة، وسأملأ أنهار وبحار العالم بدماء الكفار، سأعيد الخلافة وستكون القدس هى عاصمة الخلافة.
وقبل أن ينتهى الشاب شكرى مصطفى من كلامه سمع المجتمعون صوت صراخ وعراك يتصاعد من إحدى باحات السجن.
الحلقة القادمة الإثنين المقبل
حين دارت هذه الذكريات فى رأسى وأنا أنظر إليه فى المسجد أخذت رأسه بين يدى أقبلها، وأنا أتعجب من كونه تذكرنى، يا لهذا الرأس الذى كان يرشد ويهذب ويربى، تخرج من تحت يديه جمع كبير من نبغاء مصر، أذكر منهم المستشار عز الدين عبد الخالق نائب رئيس محكمة النقض حاليا، والدكتور محمد نصر فايد مدير شركة من كبرى شركات الأدوية، والمهندس أسامة فرهود أحد أشهر المتخصصين فى هندسة الطيران بمصر ويشغل موقعا كبيرا فى هيئة الطيران المدنى، وسامح مدحت أحد المدراء الكبار ببنك فيصل، والمستشار مصطفى محمد أمين رئيس محكمة الجنايات، وغيرهم ممن يصعب حصرهم، ومن الأستاذ أحمد إبراهيم مدرس الدين واللغة العربية عرفت أنا التلميذ الغضّ الصغير طالب الصف الأول الثانوى الكثير وفهمت الكثير، كان حين يتكلم لا أنصت إليه بأذنى، ولكننى كنت أنصت إليه بكيانى كله، ومنه عرفت أن الله خلق لنا العقل لا لكى نفهم فقط ونعيش حياتنا الدنيا، ولكن كى تكون لنا حرية الاختيار، وأن أول مرحلة من مراحل الحرية هى القراءة، وأذكر أننى قلت له يوما وهو يحدثنا فى الفصل: أليست قراءة القرآن هى أفضل قراءة؟
فقال لى عبارة ظلت عائشة فى ذاكرتى: هذه ليست قراءة عادية ولكنها صلة حب ووجد، إذا أردت أن يحدثك الله فاقرأ القرآن.
وكان مما عرفته من الأستاذ أحمد إبراهيم هو أن هناك جماعة تدعو لله اسمها «جماعة الإخوان المسلمين»، ولم أكن قد سمعت عنها من قبل ووقع فى خلدى أول الأمر أنها طريقة صوفية، ثم عرفت منه بعد ذلك ما جعلنى متشوقا لهذه الجماعة مشفقا على ما أصابها، وكان ذلك فى ديسمبر من عام 1973، وفى إحدى حصص الدين قص علينا أستاذنا أحمد إبراهيم وهو يشرح الآية الكريمة (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) خبرا وقع علينا كالصاعقة ولم نستطع استيعابه وقتها، عرفنا منه أنه كان محبوسا فى فترة الستينيات لعدة سنوات بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين.
■ ■
اعتبرت ذلك اليوم الذى قابلت فيه الأستاذ أحمد إبراهيم بعد سبع وعشرين عاما من الانقطاع هدية أرسلها الله إلىّ، فأنت حين ترى من تحبهم لا تراهم وحدهم، ولكنك ترى الزمن الذى عشت فيه معهم بأحداثه وأشخاصه وشبابه وحيويته، لذلك فإن آلة الزمن الحقيقية التى من شأنها أن تنقلك إلى أزمان أخرى هى أن تقابل من انقطعت عنهم منذ سنوات طويلة.
يسكن الأستاذ أحمد إبراهيم فى عقار قديم بشارع نخلة المطيعى القريب من منطقة سفير بمصر الجديدة، وقد رزقه الله بابنة واحدة تزوجت فى تسعينيات القرن الماضى وهاجرت مع زوجها الطبيب إلى كندا حيث استقر المقام بها هناك، وبعد هجرة ابنته بعدة سنوات توفيت زوجته فتركته وحيدا، وشيئا فشيئا أخذ يطيل إقامته فى مسجد قاهر التتار بعد الصلوات، حتى أصبح يقضى معظم اليوم فى المسجد، لا يفعل إلا أن يقرأ القرآن الكريم عابدا خاشعا متبتلا لله رب العالمين، لا يتحدث مع الناس إلا بوجه بشوش وكلمات لينة، أما فى بيته فقد كان يقضى فيه فترة الصباح بعد أن يعود من صلاة الفجر فيمضيها فى قراءة بعض أمهات الكتب فى كل فروع المعرفة، ثم يقضى وقتا ما فى كتابة خواطره بخطه الجميل الأنيق، وقد يسر الله له أمر حياته إذ كانت تمر عليه يوميا خادمة طيبة تطبخ له طعامه القليل الزاهد، وترتب له شؤون بيته، أما جيرانه فقد كانوا يوادونه بين الحين والآخر الأمر الذى ملأ عليه حياته.
بعد يومين من لقائى معه فى المسجد هذا اللقاء الذى أحدث أثرا كبيرا فى فكرى وتفكيرى، ذهبت إليه فى المسجد فجرا كى أصلى برفقته وأستعيد معه زمنا لا يمكن أن نستعيده إلا فى الأمانى والأحلام، وبعد الصلاة أخذنى إلى بيته «ذلك البيت الذى دخلته وأنا بعد صبى على عتبة الشباب، حيث كنت وبعض الرفاق نقصده لنسأله ونحاوره، وبعد أن ساعدته فى إعداد طعام الإفطار وتجهيز «عدة الشاى» جلسنا لنتكلم، وكانت هذه أول مرة أفهم كيف أنك لا يمكن أن تحكم على الأشياء بظواهرها، إذ سيكون حكمك حينئذ ظاهريا، وقتها فهمت كيف أن العبد صالح حين قال لسيدنا موسى «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا»، كان ينبهه أن لا يقف عند علم الظاهر، ومع الأستاذ أحمد إبراهيم عرفت أمورا لو لم أسمعها بنفسى لما صدقتها، فقد كان الأستاذ أحمد إبراهيم أبو غالى شاهدا على أخطر أمر أصاب جماعة الإخوان عبر تاريخها كله، شاهد هذا الرجل أشياء ستغير تاريخ الإخوان بل تاريخ الحركة الإسلامية كلها.
■ ■
فى مكتب أحمد ربيع غزالى أكلنا طعام الغداء، كنت أتحرق شوقا كى أعرف ما الذى يعرفه أحمد ولا أعرفه، أخذت أستحثه على الحديث وهو يتأنى وكأنه يريدنى أن أزداد شوقا، خصوصا وهو يعرف حبى للمعرفة، وبعد هُنيهة ظننتها دهرا أخرج أحمد من أحد أدراج مكتبه رزمة أوراق وقال:
هذه أوراق التاريخ، تحتوى على تاريخ أهمله الإخوان، ولكننى بحثت عنه وجلست من أجله مع عدد كبير من شيوخ الإخوان، منهم الأستاذ محمود عبد الحليم والمرشد الراحل حامد أبو النصر وبعض الرعيل الأول من الإخوان من الذين عاصروا حسن البنا وأخذوا منه وكانوا شهودا على فترة التكوين، سجلت حوارات مع بعضهم ودونت ما قاله لى البعض الآخر، وجمعت كل هذا فى تلك الأوراق لعلى أجعل منها كتابا فى المستقبل.
قلت له: وهل ستقرأها لى؟!
أحمد ربيع: نعم حتى أكون دقيقا وحتى نتناقش فى الفقرات التى سأقرؤها.
أومأت له علامة الموافقة، فبدأ أحمد ربيع فى التلاوة:
فى صفحة من صفحات التاريخ يجلس الشيخ حسن البنا على أحد مقاعد الريادة والتفرد، لا شك أن هذا الرجل كان عبقريا، جمع بين همة عالية وتأثير بليغ، والفكرة عندما ترد على الذهن قد تباغتنا وقد تدخل على مهل، ويبدو أن حسن البنا قد فكر فى إنشاء جماعته وخطط لها حينما كان شابا يافعا يطلب العلم فى مدرسة دار العلوم، فقد قرأ وقتها الأخبار التى أخذت تتواتر من نجد والجزيرة العربية عن جيش «الأمير عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود» الذى أخذ يساعده فى إخضاع الجزيرة العربية له، ليأخذ الحكم عنوة من آل رشيد، أطلق عبد العزيز آل سعود على جيشه «الإخوان»، و«إخوان من أطاع الله» وجعل شعارا لهم السيف وعبارة التوحيد «لا إله إلا الله محمد رسول الله».
قاطعته: إذن الإسم له أصل؟
أحمد ربيع: نعم هكذا قال لى الأستاذ محمود عبد الحليم.
قلت متعجبا: ولكنه لم يقل هذا فى كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» لا على الاسم ولا على الشعار!
أحمد ربيع: ستتعجب حينما تعرف أنه قال هذا، ولكن الكتاب خضع لمراجعة من الحاج مصطفى مشهور، وقد طلب منه أن يحذف هذا الكلام وكان مبرره فى ذلك أن هذا الكلام من شأنه أن يفتح أبواب جهنم على الإخوان، لذلك جاء فى إحدى المقدمات من الكتاب أن الإخوان لا يعتبرون هذا الكتاب تأريخا رسميا لهم، ولكنهم يعتبرونه تأريخا جيدا، والسبب فى هذا أن الأستاذ محمود عبد الحليم كتب أشياء كان الإخوان يريدون إخفاءها، وافق الأستاذ على تخفيف البعض وحذف البعض الآخر، إلا أنه أصر على أن يُبقى فى الكتاب أشياءً أخرى لم يرض عنها الحاج مصطفى.
أومأت برأسى ثم طلبت منه أن يكمل القراءة، فقرأ:
فى هذا الزمن لم تكن العبقرية وقفًا على شخص، واحد إذ كان العالم يعج بالعباقرة، وكأننا كنا نعيش فى وادى عبقر أو فى مدينة عبقرينو، فكان من عباقرة هذا الزمن عبد العزيز آل سعود، استطاع عبد العزيز آل سعود أن يقيم دولة، وكانت عدته فى ذلك «فكرة وجيش»، أما الفكرة فهى «الوهابية»، نسبة إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذى كان حليفا لجده الأكبر محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى فى الدرعية على إقامة دولة إسلامية تكون الوهابية الحنبلية مذهبها، إلا أن الله لم يقيض لهما انتصارا لفكرتهما ولا توفيقا لتحالفهما إذ لم يستطع محمد بن سعود ولا ولده من بعده إقامة هذه الدولة، واستطاعت جيوش الوالى المصرى محمد على التى قادها طوسون باشا هزيمة آل سعود وأسر قائدهم عبد الله الذى أخذ إلى إستانبول حيث قتل هناك.
قاطعته: طوسون باشا هذا هو الابن الأكبر لمحمد على.
هز أحمد رأسه علامة التأكيد، ثم أكمل:
درس عبد العزيز آل سعود أحداث التاريخ جيدا وهو يجهز نفسه منطلقا من «الكويت» ليهزم آل رشيد ويستولى على الجزيرة كلها ويخضعها لحكمه، ذلك الحكم الذى بذل من أجله الأجداد الأرواح والأبدان والأموال، وعرف أن اجتماع من معه على فكرة لهو أمر كفيل بنجاحه فى إقامة دولته، فكانت الفكرة هى «الوهابية»، تلك الحركة التى أخذت تحارب البدع حتى توسعت فى مفهومها وشددت على نفسها وعلى أتباعها، رأى عبد العزيز آل سعود أن «الوهابية» هى الراية التى سيرفعها ويعلن دولته باسمها، ومن البدو صنع الرجل العبقرى جيشه، كان عبد العزيز آل سعود مؤسس الدولة السعودية الحالية يؤلف الرجال ويصنعهم على عينه، لذلك أخذ يدعو البدو إلى «هجر البداوة والبادية» والهجرة إلى التدين والاستقرار، فكانت «الهجرة» هى وسيلة عبد العزيز آل سعود لتكوين جيشه، حتى أُطلق على الأماكن التى استقروا فيها «الهجر»، وأطلق على جيشه جيش الإخوان، دولة آل سعود لم يكتب الله لها النجاح إلا عندما جمعت بين الفكرة والقوة، الفكرة هى الراية الوهابية، والقوة هى الجيش.
قاطعته للمرة الثالثة: محمد بن عبد الوهاب لم يُنشئ مذهبا بالمعنى المعروف، فهو صاحب حركة، وحركته تتبع المذهب الحنبلى، وقد عمَّر كثيرا ومات بعد أن تجاوز التسعين وقد أصبح هو ذاته «الفكرة».
أكمل أحمد:
ارتسمت هذه الأفكار فى رأس الشاب حسن البنا فكان أن أنشأ فور تخرجه «الحركة» أنشأ الجماعة، وكان هاجس جيش «إخوان آل سعود» يسيطر على فؤاده، وكانت رايتهم تلهمه، فأطلق على حركته «الإخوان المسلمون»، ولكن هل تستطيع الجماعة المدنية أن تقيم دولة؟ هل من شأنها أن تخضع مصر لحكمه، هل من شأنها أن تعيد دولة الخلافة الفقيدة؟ ليس فى طوق جماعة تنشغل بالدعوة والعلم وتحسين أخلاق الناس أن تصل إلى ما يريد، فالإسلام لم يكن مجرد نظرية تبحر فى الهواء الطلق فيلتقطها من يشغف بها، بل الإسلام يمتلك حركة ذاتية، فهو دين الحركة، دين الجماعة، دين الفاعلية والمبادرة، والفاعلية لا تكون كذلك إلا بالفاعلين، لذلك يجب أن تكون الحركة جيشا لا مدرسة، والجيش يلزمه السلاح، والسلاح فى فترة الاستضعاف يكون شعارا، لذلك جعل الشاب حسن البنا من السيفين شعارا للجماعة، ولكن يجب أن يكون للفكرة وجود فى الشعار، لذلك وضع المصحف، وبين السيفين كتب كلمة قرآنية هى «وأعدوا»، ولكن هل ستكون الفكرة هى الإسلام الذى يعرفه الناس، فبماذا تتميز الجماعة إذن إن جعلت من الإسلام فحسب فكرة لها؟ فالجمعية الشرعية، وأنصار السنة، تسبق الجماعة فى العمر، وفكرتها هى الإسلام، فكر حسن البنا فى أن يكون أكثر تحديدا، وأمامه عبد العزيز آل سعود الذى اعتبره جيش الإخوان الإمام والقائد، ومع ذلك لم يكن الأمر كافيا عند الملك عبد العزيز، فهو لم يخلط نفسه بالفكرة، ولكن حسن البنا وجد الفكرة، الفكرة هى شخصه، هو الإمام والقائد والمرشد وصاحب الدعوة، هو الرجل الذى اختلط بفكرته واختلطت فكرته به، وكما هناك دعوة محمد بن عبد الوهاب الذى كان تلاميذه يطلقون عليه «صاحب الدعوة» اقتداء بما قالته زوجة الأمير محمد بن سعود «موضى بنت محمد بن عبد الله العرينى» حين أوصت زوجها باتباع محمد بن عبد الوهاب، فقالت له: اتبع دعوة هذا الرجل فهو غنيمة خصك الله بها.
فكان حسن البنا أيضا هو «صاحب الدعوة».
ومن بعد ذلك ظلت جماعة الإخوان المسلمين تعيش فى كنف الفكرة والقوة.
انتهى أحمد من القراءة، فقلت له وكأنك تريد أن تقول.
قاطعنى: نعم الجماعة تقف على بئر بارود.
قلت له: ولكن كلامك ليس فيه ما يدل على ذلك، ولكننى أستطيع أن أضيف لكلامك شيئا خطيرا تذكرته الآن ونحن نتحدث.
أحمد ربيع: ما هو؟
باغتُّه: أنا على يقين أن الجماعة لها تنظيم داخل الجيش يعمل منذ فترة، وقد عرفت هذا من خلال أحد الإخوة من الذين كانوا معى فى أسرة واحدة بمنطقة الزيتون.
ربيع: من هو؟
أنا: اسمه أشرف وهو أخ طيب.
ربيع: وكيف عرف هو ذلك؟
أنا: الحقيقة هو لم يقل لى ذلك بشكل صريح، ولكننا كنا فى يوم من الأيام نصلى الجمعة فى مسجد «العزيز بالله»، وبعد الصلاة وجدته يسلم بحميمية على شخصين وبعد أن انصرفا سألته عنهما، فقال إنهما من الإخوان، ولكنهما لا يشاركان فى أى أنشطة إخوانية لأنهما يشغلان مواقع حساسة فى الدولة.
ربيع: وما فى ذلك؟
أنا: لا شىء، كل الحكاية أننى أعرف هذين الشخصين، هما من ضباط الجيش، أولهما كان قائد الكتيبة التى كنت مجندا فيها فى الجيش، والثانى كان مسؤول الأمن فى الكتيبة، يعنى عام 1981 كان أحدهما هو الرائد هاشم، والثانى كان النقيب هانى.
وبعد سنوات من حديثى مع أحمد ربيع أصبح هذان الضابطان من أصحاب الرتب الكبيرة فى الجيش المصرى.
طوسون ضابط المباحث الذى أصبح رئيس قسم المحاميين فى الإخوان بعد سجن نوح
كان عثورى على «الشيخ الحكيم» خارج كل توقعاتى، إذ كان بمثابة العثور على كنز أسطورى، وإذا كان الظن أن الكنوز هى الجواهر والألماس والذهب والفضة، فإن هذا هو ظن العامة، أما يقين الخاصة كما عرفت من الشيخ الحكيم فهو أن الكنز الحقيقى هو جواهر المعرفة ولآلئ الحكمة، وما بين ظن العامة ويقين الخاصة تدور الدنيا بنا، وكان أن عثرت على «الشيخ الحكيم»، وأنا فى طريق البحث عن جواهر المعرفة.
كانت رحلتى مع جماعة الإخوان هى رحلة البحث عن الحقيقة، رحلة البحث عن اليقين، ظللت أبحث عنها وأنا فى داخل الجماعة، وظللت أبحث عنها بعد ذلك وما زلت، حتى أمسكت ببعض خيوطها، لكن هل تستطيع أن تجزم أنك وصلت إلى الحقيقة؟ نعم قد تنظر إلى الحقيقة وتراها وتدرك بعض معانيها، لكن رؤية الحقيقة غير الوصول إليها، لن نصل إليها إلا فى عالم آخر، عالم الخلود، هذا هو عالم الحقيقة، لكن انتظر معى هنيهة فأنا لم أنته من كلامى بعد.. هناك من الخلق بمن فيهم الأنبياء والملائكة من وصلوا إما إلى علم اليقين أو عين اليقين، أما الذى وصل إلى حق اليقين فهو الرسول صلى الله عليه وسلم، فالذى عرف الحقيقة ونظر إليها غير الذى وصل إلى عالمها واغترف منها، الذى كان ذلك هو الرسول صلى الله عليه وسلم، هو الذى كان عند سدرة المنتهى، هو الذى تقدم فاخترق، ولو تقدم غيره، ولو كان من نور لاحترق، لذلك كان صلى الله عليه وسلم هو خير خلق الله كلهم.
كنت أجوب المساجد بحثا عن راحة نفسية افتقدتها سنوات، ومن عجائب النفس البشرية أننى كنت أفتقد الراحة النفسية وأنا فى قلب جماعة إسلامية، لم تكن الجماعة مسجدا نسجد فيه لرب العالمين، لكنها كانت موطئا لأناس أحدهما ميت، والآخر كالمغسل يقلبه كيف يشاء، ولا يكون هذا إلا عندما تنعدم إرادة من وصفته بالميت، وما هو ميت، لكنه ليس حيا، بل هو واحد من الذين قبلوا أن يعيشوا كالأموات يعبث بعقولهم من يريد، كنا لا نصلى إلا فى مساجد بعينها، ولا نقيم الليل فى رمضان إلا فى مساجد تابعة للإخوان، ولا نصلى العيد إلا فى ذات المساجد، وقبل أن أتسلق سور الجماعة الحصين لأقفز إلى العالم الحقيقى هربا من عالم الأشباح انطلقت إلى المساجد الحقيقية التى افتقدتها سنوات طويلة، وكان أن أصبحت من رواد مسجد قاهر التتار بمصر الجديدة الذى كان إمامه هو الشيخ الدكتور سالم عبد الجليل الذى كان فى يوم من الأيام من الإخوان ثم سبقنى وهرب من الجماعة، وكنت قد سافرت معه فى رحلة حج وهبها الله لى قبل تركى الإخوان بعام، وكان هذا الحج هو «الحالة الشعورية والقلبية» التى أهلتنى لترك الجماعة، فهناك فى مساجد الله الحقيقية، فى الحرمين المكى والنبوى، تخلصت من استعباد واستبداد البشر وخضعت لرب العباد وحده، لا إله إلا هو.
وبعد أن عدت من مناسك الحج وجدت أن مسجد قاهر التتار ارتبط فى نفسيتى بسياحتى فى الحج، فأخذت لا أذهب إلا إليه وكأنه يعيد لى باستمرار ذكرى تلك الأيام المقدسة التى كنت أعيش فيها كالطائر الذى لا يلمس الأرض من فرط نشوتى الروحية، وفى ذات اليوم الذى خرجت فيه من الجماعة ذهبت إلى مسجد قاهر التتار بمصر الجديدة أسجد لله رب العالمين كى أعلن لنفسى أننى خرجت من عبودية العباد إلى عبودية الله رب العباد، وبعد شهور وفى ذات المسجد بمصر الجديدة رأيته عن بُعد، شيخا كهلا يجلس القرفصاء بعد صلاة العشاء، منكبا على قراءة القرآن بصوت خافت، غمرتنى راحة نفسية حين وقع بصرى عليه، ظننت أن قلبى هو الذى رآه لا عيناى، وحين تبصر الناس بقلبك فإنك تكون قد أدركت محبتهم، والإنسان لا يجهل من يحبه، لذلك خيل لى أننى رأيته من قبل، أهو من الإخوان، أم أنه من الصوفيين؟! كنت قد تركت الإخوان منذ أشهر، وحينما رأيته بعين قلبى وببصر بصيرتى استشرفت فيه الصلاح والعلم، فاقتربت منه وجلست بجواره، لم يستغربنى، لكنه ابتسم فى وجهى ابتسامة محببة، فألقيت عليه السلام، فحيانى بعبارات محببة وبش فى وجهى، طلبت منه أن يدعو لى فوضع يده على رأسى وأخذ يدعو لى دعاءً فياضا بصوت رخيم متهدج من فرط الصدق، أهكذا ودون سابق معرفة تلتقى الأرواح؟! وبغير إرادة منى وكأننى مسيّر أخبرته أننى كنت من الإخوان وتركتهم منذ شهور، وكأننى أريد أن أدرأ عن نفسى تهمة لم يوجهها إلىّ! أو كأننى كنت أعلن سعادتى بحصولى على صك الحرية، قال لى بعاطفة وكأنه أبى: وأين أنت الآن؟
قلت: أنا أنتمى إلى الحركة الإسلامية، إلى التيار الإسلامى، فأنا إسلامى النزعة.
قال والبشاشة على وجهه: لا تقل أنا إسلامى، لكن قل أنا مسلم، الله قال لنا ذلك، قال فى كتابه الكريم «هو سمَّاكم المسلمين من قبل» ولم يقل هو سمَّاكم الإسلاميين، وقال «واشهد بأنا مسلمون»، ولم يقل واشهد بأنا إسلاميون، لذلك فإن مصطلح الإسلاميين لم يكن معروفا فى عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا فى عهود الصحابة وحتى القرن التاسع عشر، بل كان كل من يجتهد فإنما كان ينسب الاجتهاد لنفسه، لا للإسلام، فهذا حنفى وذاك مالكى، وذلك شافعى وهكذا، لم يجرؤ أحدهم على أن ينسب الإسلام لنفسه أو يقول أنا صاحب المذهب الإسلامى، ولذلك كانت تعبيرات «المذاهب الإسلامية» تعبيرات حديثة لم يقل بها أصحابها، وكذلك مصطلح «الفقه الإسلامى»، فالصحيح أنه «فقه المسلمين»، والحضارة الإسلامية هى حضارة المسلمين لا الإسلام، وتاريخ الإسلام هو تاريخ المسلمين لا الإسلام، تاريخ الإسلام لم يكن إلا فى عهد الرسالة فحسب، وما بعد ذلك كان تاريخ أجيال من المسلمين.
ثم استطرد: لا ينبغى أن يختلط «الإسلام» فى الأذهان بـ«المسلم»، فثمة مسافة بينهما، لذلك كان من الخطأ أن نُسمى ابن تيمية «شيخ الإسلام»، إذ يجوز أن يكون شيخا للمسلمين، لكن لا توجد مرتبة فى الإسلام اسمها «شيخ الإسلام»، وكذلك من يقولون على أبى حامد الغزالى «حجة الإسلام»، فهو ليس حجة الإسلام، فالحجة هى الدليل، وحجة الإسلام هى القرآن، هى الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا توجد مرتبة اسمها «حجة الإسلام» يجوز أن نقول عنه فقط أنه «حجة المسلمين»، المرتبة الوحيدة فى ديننا هى مرتبة النبوة والرسالة، هى نبى الإسلام، لكننا تأثرنا بالأمم التى سبقتنا فبحثنا لأنفسنا عن مراتب دنيوية «مقدسة» تمنع البشر من المساس بأفكارنا النسبية، دون أن نبحث عن مرتبة لنا عند رب الناس يا ثروت.
تعجبت من معرفته اسمى دون أن أخبره به فقلت مندهشا: أتعرفنى؟!
قال وهو يمسك برأسى ليقبلها: نعم أعرفك، لكنك نسيتنى.
فنظرت إليه فى ذهول، يا ربى نعم إنه هو، لكن كيف عرفنى بعد هذه السنوات الطويلة؟!
كان عام 1999 قد أعلن عن انتصافه حينما اجتمع قسم المحامين بجماعة الإخوان ذات مساء أشعث أغبر شديد الحرارة فى مكتب أحمد ربيع غزالى، كان مختار نوح هو رئيس القسم الذى تتكون إدارته من سبعة أفراد، أما نائبه فهو خالد بدوى، وكان الأمين العام للقسم هو أحمد ربيع، أما الأعضاء فكان منهم محمد طوسون ضابط المباحث السابق الذى أصبح رئيسا للقسم بعد القبض على مختار نوح، وخالد بدوى فى قضية النقابيين، وكان قد صدر قرار من قسم المهنيين فى الجماعة بتعيينى مستشارا «للجنة السبعة» التى تدير قسم المحامين، ومسؤولا عن إدارة المعارك الانتخابية للإخوان فى نقابة المحامين، وكانت هذه أول جلسة أحضرها بعد تعيينى فى هذا الموقع، وكان من المعتاد بين الحين والحين أن يحضر اجتماعات المحامين أحد الإخوان من قيادات المهنيين، وكان القيادى الذى حضر اجتماعنا فى هذا اليوم هو الطبيب سعد زغلول العشماوى، دار الحوار حول الإجراءات العديدة التى اتخذناها لإنهاء الحراسة عن نقابة المحامين والقضايا التى رفعناها فى هذا الشأن، والحكم الذى حصلنا عليه من محكمة الاستئناف، الذى قضى بإنهاء الحراسة، وكيفية تنفيذ هذا الحكم، وكان من الطبيعى أن نتناول فى أثناء مناقشاتنا الوضع السياسى فى الدولة.
قال سعد العشماوى وكأنه يلقى درسا على مجموعة من التلاميذ: نظام مبارك هو أقوى نظام استبدادى فى العالم، هذا نظام لا يزول إلا عن طريق ملك الموت.
قاطعه مختار نوح: إرادة الناس لها دور يا دكتور.
رد العشماوى: الإرادة الشعبية غائبة يا أخ مختار، أين تلك الإرادة عندما صدر قرار الطاغية بإحالة الإخوان إلى المحاكم العسكرية؟ كل الناس دخلوا فى صمت الأموات، أفأنت تسمع من فى القبور!
تدخلتُ فى الحوار مندفعا: اسمح لى بالاختلاف معك يا دكتور، نظام مبارك هو أضعف نظام استبدادى.
ابتسم العشماوى مستهينا: كل هذه الشرطة والأمن المركزى والجيش والحرس الجمهورى والقمع والإحالة إلى المحاكم العسكرية وتزوير الانتخابات وتقول لى إن هذا أضعف نظام استبدادى؟!
أومأت برأسى قائلا: هذه مظاهر ضعف، وليست دليل قوة.
قاطعنى: نعم هو حاكم ضعيف، لكنه منيع، لا يستطيع أحد أن يزيحه من موقعه.
أحمد ربيع متدخلا: ألا توجد ثمة وسيلة يا دكتور تكفل لنا الإطاحة بهذا الرجل؟
العشماوى: لا تراهن على الشعب فقد تعوَّد على الخنوع، الحل فى أيدينا نحن.
أحمد ربيع مستنكرا: فى أيدينا عن طريق الانتخابات المزورة والنقابات!
العشماوى: وما أدراك؟ إخوانك يخططون ليوم إزاحة مبارك ويعدون العدة لذلك، لكن ليس كل ما يُعرف يقال.
ربت مختار نوح على كتف الدكتور العشماوى منهيا الحوار: يا دكتور المسألة أبسط مما تظن، لو خرج الشعب فى عدة مظاهرات بميادين مصر فى أيام متتاليات لسقط نظام مبارك بأكمله، الشعب سيكون له الدور الأول فى إسقاط مبارك، ولن يسقط بغير ذلك، أى محاولات أخرى محكوم عليها بالفشل.
انتهى الاجتماع بعد أن أبدينا تخوفات من القبض علينا فى حالة تنفيذ حكم إنهاء الحراسة، وكان الرأى أن نذهب إلى حليفنا الأستاذ رجائى عطية المحامى الذى رشحناه لكى يكون نقيبا للمحامين لنأخذ منه الوعود والعهود بما له من صلات حكومية وثيقة، على عدم المساس بنا فى حالة إنهاء الحراسة.
وفى نهاية الاجتماع استبقنى أحمد ربيع دقائق معدودات، وبعد أن انصرف الجميع قال لى وكأنه يهمس: هل أغضبت المرشد الحاج مصطفى مشهور فى شىء؟
قلت مندهشا: لا، لم يحدث شىء! لماذا تسأل؟
أحمد ربيع: كنت معه بالأمس، وأخذ يسألنى عنك وعن أحوالك، وقال لى أريدك أن تحضر لى ثروت، وعندما سألته لماذا لم يطلب حضورك عن طريق مسؤول منطقتك، قال لى إنه يريدك أن تذهب إليه دون أن تعرف منطقتك بخبر هذا اللقاء.
وماذا قلت له عنى؟
أحمد ربيع: قلت له إنك ذلك الأخ الذى الذى يُنظـِّر لنا، فقال لى مداعبا: أنا لا أحب المُنـَّظِرين.
مصيبة لو قالها لك بتشكيل آخر، لا أحب المُنـْظـَـرين.
أحمد ربيع ضاحكا: لا هو قالها بتشديد النون وكسر الظاء وليس المُنـْـظـَرين بتسكين النون وفتح الظاء، اطمئن فهو يحبك، لكن فكرته عن المحامين سيئة.
وهل أخبرك بالميعاد؟
ربيع: لو ناسبك نصلى الظهر معه غدا.
ماذا ستكشف لنا المقادير غدا، وإن غدا لناظره قريب.
*********************
فى مقر جماعة الإخوان بالمنيل انفرد بنا المرشد الحاج مصطفى مشهور، كان كعادته منتصب الرأس عميق النظرات، سألنى مباشرة: أنت زعلان منى؟
تعجبت من السؤال إلا أننى قلت له على الفور: لأ أبدا فضيلتك، ربنا ما يجيب زعل.
قال بهدوء: أخبرونى أنك كنت تريد أن تنتقدنى!
زاد عجبى وابتسمت قائلا: لأ أبدا لم يحدث هذا، من أخبر فضيلتك؟
المرشد: من منطقتك، لذلك فضلت أن تأتى لى عن غير طريقهم، أيكذبون عليك أم علىّ؟
قلت: ممكن يكون بعضهم فهم أمرا ما خطأ.
المرشد: كيف؟
قلت: كلفنى إخواننا فى مدينة نصر بإلقاء محاضرة فى إحدى الكتائب عن كتاب لفضيلتك، هو كتاب «تساؤلات فى طريق الدعوة»، وبعد أن قرأت الكتاب وجدت أن بعض الأفكار التى كتبتها فضيلتك تستحق المناقشة والتعقيب والأخذ والرد، لذلك اقترحت عليهم أن تكون المحاضرة عبارة عن دراسة نقدية لكتاب فضيلتك، لكنهم رفضوا فألقيت المحاضرة بشكلها العادى.
المرشد: إذن لم يكذبوا عليك ولا علىّ، كنت تريد أن تنتقدنى!
قلت: لا يا فندم فيه فارق بين حضرتك وبين كتابك، أنا لا انتقدك، لكنى أنتقد بعض أفكار وجدت أن لى وجهة نظر فى بعضها، وطبعا حضرتك عارف أن عقولنا نسبية.
أومأ لى المرشد دون أن يتكلم ثم تحرك بجسده فى مكانه وكأنه يبحث عن أوراق، إلا أن أحمد ربيع أراد أن يوجه الحديث وجهة أخرى فسأل المرشد: تسمح لى فضيلتك بسؤال، الدولة تحاصرنا حصارا غير عادى، وتحيلنا إلى المحاكم العسكرية ونحن لا نحرك ساكنا، لماذا هذا الركون والاستضعاف؟
المرشد: وماذا تريدنا أن نفعل يا سى أحمد؟
أحمد ربيع: أى موقف، موقف قوى.
المرشد: لتعلم أن ضعفنا قوة.
أحمد ربيع: كيف؟
المرشد: هم يريدون استفزازنا حتى نلجأ إلى العنف فيستطيعون إبادتنا، ونحن لن نلجأ إلى العنف، ولذلك فإن ضعفنا وعدم ردنا عليهم هو أكبر وسيلة لدفع الاعتداء، لا يجوز أن نضع السيف فى موضع الندى.
أحمد ربيع: لكن يجب أن نعد العدة ليوم المواجهة.
وهنا أشار المرشد إلى شعار الجماعة الموضوع بشكل واضح فوق المكتب: ألا ترى كلمة «وأعدوا»، التى بين السيفين، نحن نعمل بها منذ سنوات طويلة.
وهنا تدخلت فى الحديث لأول مرة منذ أن تكلم أحمد: وما الذى نفعله فضيلتك وفقا لكلمة «وأعدوا»؟
نظر المرشد إلى أحمد ربيع وكأنه هو الذى سأل السؤال: ستعرفون فى حينها.
وبعدها وفى مكتب أحمد ربيع وقع فى يدى طرف الحبل الذى قادنى إلى أحد الأسرار العظمى للجماعة.
الحلقة المقبلة الإثنين القادم
تصوير أحمد العطيفى
لماذا أكتب؟ أكتب كما قال نزار قبانى: كى أفجر الأشياء، فالكتابة انفجار، كى ينتصر الضوء على العتمة، فالكتابة انتصار، حتى أنقذ العالم من أضراس هولاكو، ومن حكم الميليشيات، ومن جنون قائد العصابة، حتى أنقذ الكلمة من محاكم التفتيش، من شمشمة الكلاب، من مشانق الرقابة، أكتب كما قال الأديب التركى أورهان باموك «أحد أشهر من فازوا بجائزة نوبل فى الآداب»: أكتب لأننى لا أستطيع أن أتحمل الحقيقة وحدى، ولأننى عزمت على مقاومة هذه الحقيقة.
غامت الدنيا أمام نظرى وأنا أرى النتيجة الحقيقية، كنت حاصلا على أعلى الأصوات، ولم يكن أحد الذين أعلن الإخوان نجاحهم ناجحا، ورغم ذلك تبدلت النتيجة، ما أقسى أن يكون الواعظ لصا، وأن يكون الكذاب داعية، كان التزوير الذى اكتشفه عاطف عواد مذهلا لى،
1993 عام عودة النظام الخاص لجماعة الإخوان المسلمين.. بالثوب المخيف
كنا نجلس فى السيارة أسفل مكتب جمال تاج الدين، إلا أننى شعرت كأننى انفصلت عن الدنيا وما فيها وجلست فوق سحابة من الأفكار، لا أشعر بمن يجلس بجوارى، ولا أسمع ما يقول، تزاحمت الأفكار فى رأسى وعادت ذاكرتى إلى الوراء خطوة، تذكرت واقعة فجة حدثت قبل أن تُجرى عملية الانتخابات الداخلية التى اكتشف عاطف عواد تزويرها، كنت قد اصطحبت صديقا لى يُدعى عبد الهادى الأنصارى إلى النقابة العامة للمحامين قبل شهرين، وحين صعدنا إلى الدور العلوى للنقابة وجدت اشتباكا لفظيا قائما بين مختار نوح وأحد المحامين من الإخوان المسلمين، كان هذا المحامى مسؤولا عن منطقة من مناطق القاهرة وكان من المقربين من الحاج مصطفى مشهور، كانت العصبية والخشونة تحيط بكلمات هذا الأخ.
الأخ المنفعل: شف يا مختار اعتبر أننى خارج أى تصويت داخل الجماعة، سأكون فى قائمة المرشحين لفرعية القاهرة سواء انتخبنى قسم المحامين أم لم ينتخبنى.
مختار: يا أخى الذى سيحكمنا هو اللائحة، أهلا بك فى القائمة إذا انتخبك القسم، أما إذا لم ينتخبك فلا وجود لك، المسألة مش عافية.
الأخ المنفعل: المسألة عافية، وأنا قادر على إيقاف أى تصويت يستبعدنى، بالبلدى أنا فيها أو أخفيها.
ربتُّ على كتف عبد الهادى الأنصارى وأخذته بعيدا عن المعركة الكلامية، فسألنى:
إيه الحكاية؟! ما سبب هذه المشادة؟
قلت بامتعاض: المسألة كما ترى، أنت تعرف هذا الأخ حق المعرفة، هو يريد أن يكون مرشحا للإخوان فى انتخابات نقابة القاهرة الفرعية.
الأنصارى: وما المشكلة فى ذلك؟
أنا: المشكلة أن هناك لائحة داخلية تحكمنا، واللائحة توجب أن تتم انتخابات داخلية أولا نختار فيها من سيكون مرشحا عن الإخوان، وهذا الأخ يريد أن نتجاوز بخصوصه اللائحة، يريد أن يكون أعلى من أى اختيارات داخلية، يريد أن يكون مرشحا سواء صوتنا له أم لم نصوت.
تلاشت صورة عبد الهادى الأنصارى من خيالى حين هز عاطف عواد كتفى قائلا: إنت فين؟ بكلمك وانت ولا كأنك هنا!
قلت له وأنا أضع على وجهى ابتسامة ساخرة: كنت فى دنيا أخرى، ماذا كنت تقول؟
عاطف: كنت أقول إن هذه ليست أول مرة فى التزوير، وما خفى كان أعظم.
أنا: تقصد أحمد سيف الإسلام حسن البنا؟
عاطف: هوّ بعينه.
أنا: ولكن واقعة سيف الإسلام لا تعتبر تزويرا أنا أضعها فى خانة خوض الانتخابات بالإكراه رغم أنف الجميع.
عاطف: التزوير له صور متعددة يا صديقى، سيف الإسلام خاض انتخابات نقابة المحامين دون إرادة محامى الإخوان، فى التصويت الداخلى لم يحصل إلا على صوته هو فقط، صوت واحد! رسب رسوبا كبيرا! ولعلك تذكر أن أحدا لم يكن يريده، بل كنا نجهل أنه يعمل بالمحاماة أصلا.
أنا: بل لم يمارس المحاماة حقيقة، نعم هو مقيد فى جدول المحامين ولكنه لم يعمل بالمحاماة.
عاطف عواد: ومع ذلك فرضه الحاج مصطفى مشهور علينا بالإكراه مع سبق الإصرار والترصد.
قلت ساخرا: نعم قال لنا رأيكم لا قيمة له، ولوائحكم تلزمكم ولا تلزم الجماعة، وسيف الإسلام هو ابن حسن البنا وسيكون مرشحا فى النقابة العامة وافقتم أو رفضتم.
عاطف عواد: هل تذكر كيف اعترضنا عليه؟ وكيف غضبنا على إلغاء إرادتنا، حتى أننى ومعى خالد بدوى كنا فى قمة الثورة من فرضه بالقوة.
أنا: يا عم عاطف، ثوروا، انفعلوا، لكن الرأى لم يكن رأينا، والقرار لم يكن قرارنا.
عاطف: نعم صدقت، فها هو يجلس فى نقابة المحامين، يرتكب فيها جرائم سياسية، ويبرم اتفاقات سرية مع خصوم الإخوان، ويستخدم موقعه كأمين عام للنقابة فى تعويق كل المشاريع التى نقدمها لخدمة المحامين!
أنا: لعنة الله على الانتخابات وتبعاتها، إنهم يقودون الجماعة بعيدا عن دورها الحقيقى فى الدعوة، والله يا عاطف إن النفس تمج هذه الألاعيب التى لا تتناسب مع وقار الجماعة.
عاطف عواد: أنا لن أسكت، سأقلبها على رؤوسهم، هؤلاء ليسوا الإخوان المسلمين، ولكنهم «الإخوان المزورون».
أنا: إبعدنى يا عاطف عما ستفعل، أنا أصلا لم يرد فى بالى أن أكون مرشحا، تعرف أننى أحب إدارة الانتخابات لا خوضها. بعد أيام من هذه الواقعة كانت الدنيا قد تغيرت قليلا، ففى أثناء سفر مختار نوح ومعه مجموعة من قسم المحامين إلى الإسكندرية فى القطار، ثار عاطف عواد على مختار، وتحدث عن التزوير الذى حدث، وحينما عادوا من الإسكندرية اجتمعوا ولم أكن معهم، وحلا منهم للمشكلة التى حدثت والتزوير الذى افتضح أمره قرروا تعديل النتيجة وإعلان سقوط «الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور» ونجاحى بدلا منه.
وفى اليوم التالى لهذا القرار مباشرة صدر قرار من مكتب الإرشاد بزيادة عدد المرشحين للنقابة الفرعية بالقاهرة إلى ستة أفراد بدلا من خمسة، على أن يكون الأخ الساقط «التابع للحاج مصطفى مشهور» من ضمن أفراد قائمة المرشحين! لم أفهم إصرار مكتب الإرشاد على هذا الأخ رغم قلة إمكانياته، ووقع فى ذهنى أن الولاء عندهم مقدم على الكفاءة، وفى ما بعد عرفت أن عام 1993 هو العام الذى شهد عودة النظام الخاص للجماعة، ذلك النظام الذى ما زال معظم الإخوان يجهلون وجوده وتحكمه فى مصير الجماعة، وقد كان هذا الأخ التابع للحاج مصطفى مشهور أحد أفراد النظام الخاص الجديد، فى ثوبه المخيف، ثوب الأخطبوط.
1993 يعلن عن نفسه، يقول: أنا عام ما بعد الزلزال، أنا عام توابع الزلزال، أنا العام الذى سيتسرب منه بصيص ضوء خافت، ولكن من سيصل إليه هذا البصيص لن ينتبه له، سيظن أنه لا شىء، ولكن بعد سنوات سيدرك أن جزءا من السر الغامض كان تحت يديه، الآن بعد هذه السنوات أرانى كيوشع بن نون فتى موسى عليه السلام، لم يدرك الحقيقة إلا بعد أن تجاوز مكان «كشف الحقيقة» خرج سيدنا موسى مع الفتى «يوشع» قاصدين مجمع البحرين فى رحلة بحثهما عن العبد الصالح رجل الحقيقة، يحملان سمكة فى سلة، انطلقا بحثا عن هذا الرجل، واتجها إلى المكان المحدد حتى إذا وصلا إليه وجدا صخرة كبيرة مستوية، وكانا قد أحسّا بالتعب، فوضعا رأسيهما، وغرقا فى نوم عميق. وهناك انسلّ الحوت (السمكة) من السلة، واتخذ سبيله فى البحر سربا.. حدث هذا الأمر المعجزة وهما نائمان، فكان أمرا عجبا إذ كانت السمكة مشوية، ثم انطلقا بعد ذلك سائريْن بقية ليلتهما ويومهما، فلما أصبح الصباح، وأسفر وجه النهار قال موسى عليه السلام لفتاه: «آتنا غداءَنا، لقد لقينا من سفرنا هذا نصَبا»، نظر فتاه فى السلة فلم يجد الحوت -فقال له: «أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيتُ الحوت»، قال له موسى عليه السلام: فذلك ما كنا نبغيه، إذ إننا سنلتقى الرجل الذى وُعدنا به فى المكان الذى نفقد فيه الحوت، سنلتقى بالحقيقة.. وشتان بين العبد الصالح رجل الحقيقة، والعبد الإخوانى رجل الأسرار، وما كان فى ظنى وقتها أبدا أن يكون الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد هو المؤتمن على خزينة أسرار الإخوان الباطنية، ولكنه كان هو.
كانت مصر تعيش شهور ما بعد الزلزال، ويبدو أن الزلزال ترك بصمته على كل شىء فى مصر، عندما توالت الخلافات فى النقابة العامة للمحامين بين أحمد سيف الإسلام حسن البنا ومختار نوح، حتى وصلت الأمور إلى حد لا يطاق، فقررت أن أفعل شيئا، اتفقت مع عاطف عواد على زيارة الدكتور محمود عزت عضو مكتب الإرشاد كى يساعدنا بما له من حظوة فى الجماعة على وضع حد للخلافات التى كادت أن توقف العمل فى نقابة المحامين، وفى معمل التحاليل الطبية الذى يمتلكه محمود عزت فى «عمارة الميريلاند» بمصر الجديدة جلسنا نتحدث، وبعد أن سردنا له طرفا من المشكلات والمعوقات التى تسبب فيها أحمد سيف الإسلام حسن البنا فى أنشطة الإخوان المسلمين بالنقابة، طلب منا الرجل أن نخرج معا لنتحدث بحرية خارج معمله، فى الطريق العام! ونزلنا بالفعل من مقر معمله إلى حديقة الميريلاند، وأخذنا نتجول حولها ونحن نتحدث.
قال محمود عزت بعد فترة صمت صاحبته مذ خرجنا من معمله: كلنا طبعا يعلم طبيعة شخصية سيف الإسلام، ونعرف أنه سيثير المشكلات، ولكن سيف لن يبقى فى النقابة كثيرا، نحن أردنا من نزوله فى الانتخابات استثمار شعبيته ليس إلا، والده حسن البنا صنع لنفسه شعبية غير مسبوقة فى التاريخ الحديث، فاقت شعبيته جمال عبد الناصر وغاندى، لا يوجد أحد فى العالم إلا وهو يعرف من هو حسن البنا، ولعلك يا أخى ثروت قرأت مذكرات الشهيد سيد قطب رحمه الله، تلك المذكرات التى قال فيها إنه حينما كان فى أمريكا وعرف بخبر مقتل حسن البنا وجد أن كل من كانوا فى المستشفى التى دخلها للاستشفاء من مرض صدره أبدوا سعادتهم لمقتله.
أنا: قرأت هذا فى كتاب الأستاذ محمود عبد الحليم «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ».
استرسل محمود عزت قائلا: اسم حسن البنا كان كفيلا بفوز قائمة الإخوان، يكفى أنه والد الشخص الذى وضعناه على رأس القائمة.
- نحن نستثمر اسم حسن البنا.
- إعادة طرح اسم حسن البنا بقوة هى الوسيلة التى ستضمن لنا «التمكين» دون أن نكون غصة فى حلق المجتمع.
- لا يهمنا النقابة عندكم أو أى نقابة أخرى فكلها وسائل، والوسائل تقدر بقدرها.
- فلتفشل نقابة المحامين أو تذهب فى داهية، ولكن المهم أن ننجح فى تنفيذ فكرتنا.
وقبل أن يسترسل مرة أخرى قاطعه عاطف عواد بحماسته المعهودة: نحن أبناء حسن البنا نؤمن بأفكاره ولكننا لسنا أبناء سيف الإسلام حسن البنا، والأخ سيف تعددت أخطاؤه، وسيكون عبئا على الجماعة.
محمود عزت: نحن شعب لا ينظر إلى الأخطاء ولكنه يهتم بالأسماء، انسوا هذه الخلافات، وينبغى أن يكون اهتمامكم بمنطقتكم أعلى من اهتمامكم بقسم المهنيين، فالمناطق الإخوانية هى الأصل، وطريقنا إلى التمكين ما زال طويلا.
ثم أضاف: يا أخ عاطف لا تقل أبدا إننا أبناء حسن البنا أو إننا نؤمن بأفكاره، ولكن قل إننا أبناء جماعة الإخوان، نؤمن بأفكارها، يا أخ عاطف لكل زمن رجال، والرجال يتغيرون ويموتون، ولكن الجماعة لن تموت أبدا.
- كانت بداية الجماعة مع حسن البنا ثم مات، واستمرت الجماعة حية، ثم دخلها سيد قطب، ومات، واستمرت الجماعة حية، ثم دخل إلى الجماعة رجال عظماء سينساهم التاريخ، وسيعتبرهم العلمانيون خارجين عن الإسلام، ولكن خلايا الجماعة لم تتجدد إلا بهم.
- ثقوا أننا أهل الحقيقة وما نأخذه من قرارات إنما يكون أبعد نظرا مما تتخيلون.
لم يستطع عقلى ولا عقل عاطف عواد وقتها أن يستكشف بواطن كلمات محمود عزت، ألقيت أمامنا كلمة سر الجماعة ولكن استغراقنا فى مشكلة نقابة المحامين حجب عنا بصيص الضوء، وبعد سنوات من هذا الحوار، وحينما خرجتُ من الجماعة، أخذتُ أبحث عن كنز الإخوان المخبوء، ما هو سرها الذى تخفيه عن الدنيا؟ وحين عدت إلى كثير من الأحداث التى رافقت رحلتى، تذكرت كلمات محمود عزت، فوضعتها فى ترتيبها المنطقى، فإذا بكلمة السر تقفز أمام عينى.
داخل عنابر سجن طرة عام 1966 جلس الشاب الغريب الغامض أبيض الوجه غائر العينين صاحب الشعر الأسود المفروق من المنتصف يستمع إلى الشيخ الأزهرى على إسماعيل، وهو يشرح الآية الكريمة من سورة الجن (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) كان درس الشيخ على إسماعيل مؤثرا بليغا، بعدها انكب الشاب على دراسة فقه المعصية، استهوته أفكار الخوارج، فقد كانت الآيات التى قرأ تفسير الخوارج لها تدل على أن مرتكب المعصية الذى لا يتوب سيخلد فى النار أبدا، وها هى إحدى الآيات التى تتحدث عن الربا، أخذ الشاب يقرأ الآية على مهل «الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذى يتخبطه الشيطان» أخذ الشاب يسترسل فى القراءة إلى أن وصل إلى قوله «ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون». الفكرة الآن فى طريقها للاستواء فى ذهن الشاب الغامض، المسلم إذا أقرض مسلما بالربا فإنه سيخلد فى النار، إذن المعصية تؤدى إلى الخلود فى النار! وليس الكفر فقط، ذُهل الشاب وهو يقرأ لأحد الخوارج تفسيره لآيات الميراث، نهاية الآية واضحة أيضا، يقرأ الشاب قول الله «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار» حسنٌُ حسن، من يلتزم بحدود الله سيدخل جنات الله، إذن ما هو موقف من يعص الله ورسوله، الآية تقول «يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين». وحتى يستقيم الأمر فى ذهن الشاب الغامض أخذ يقرأ التفاسير المشهورة فلم يقتنع بما ورد فيها من أن الخلود فى النار هنا إنما يكون لمن عصى الله معصية كفر، أى إنما تكون لمن أنكر آيات الله كفرا بها وكفرا بالله، فالمسلم لا يخلد فى النار من معصية، عاد الشاب الغامض إلى تفسير أستاذه سيد قطب «فى ظلال القرآن» نظر على وجه الخصوص إلى تفسيره فى شأن آيات المواريث، فوجد أن سيد قطب يُكّفر المسلم الذى يرتكب معصية، وكأن الشاب الغامض قال وقتها «وجدتها وجدتها» وأظنه قفز فرحا من مكانه، وبعد أن حفظ ما قاله سيد قطب عن ظهر قلب أغمض عينيه فى هدوء فقد أخذ الكرى يداعب أجفانه ولم تقوَ الفرحة على مقاومة النوم، فنام، ولكن مصر فى يوم ما لن تعرف للنوم طريقا، فقد بدأ الشاب الغامض فى طريق لن يكون له منتهى.
الحلقة السادسة الإثنين القادم
لا يمكن لأحد أن ينكر أن مصر الثورة تمر بمرحلة هامة للغاية هذه الأيام، ولا بد لنا كلنا، أقصد هنا كل المتابعين والمراقبين، أن يكونوا يقظين هذه الأيام لمتابعة ما يحدث على أرض الواقع لنكتشف جميعا حجم المأساة التى نعيشها جميعا وهى ظهور جماعة الإخوان المسلمين على الساحة السياسية بعد الثورة فى مصر، فلا يمكن بأى حال من الأحوال أن ينسى أو يتناسى أى منا تلك الهجمة الشرسة التى نراها كل يوم على مؤسسة القضاء من جماعة الإخوان المسلمين ولا يمكن لأحد أن يصف مواجهات الإخوان بالقضاء إلا بالهجمة الإرهابية الهمجية، ونحن فى أشد الاستغراب أن نجد اليوم الذى نرى فيه الإخوان المسلمين هم الذين يمتلكون صك الثورة والثوار ويتهمون من يخالفهم فى الرأى بالفلول، وبعد وصول الجماعة إلى كرسى رئاسة الجمهورية كبرت أحلامهم وآمالهم وتملكتهم قوة زائفة يريدون بها أن يقولوا للجميع فى مصر «إننا الأقوى وإننا الأعظم»، وسبحان الله ما بين عشية وضحاها يتحول الإخوان المسلمون من الأبواب الخلفية والسجون إلى الشوارع والصوت العالى والهجمات الإرهابية على المخالفين لهم فى الرأى، ففى المشهد الأخير وداخل قاعة مجلس الدولة كان المشهد يؤكد أننا لسنا أمام جماعة سياسية بل نحن أمام جماعة إرهابية ترهب كل من يواجهها بالحجة والمنطق، هتافات هؤلاء داخل المحكمة كانت هتافات إرهابية يريدون بها أن يرهبوا قاضى المنصة حتى يحكم لهم كما يريدون، اعتداؤهم السافر على الشخصيات الوطنية المحترمة من أمثال حمدى الفخرانى ونجاد البرعى وأبو العز الحريرى يدل دلالة كاملة على أن صوت البجاحة السياسية هو الأعلى، ومن يرَ فتيانهم على شبكات التواصل الاجتماعى الفيسبوك والتويتر وتعليقهم على الآراء المخالفة لهم والصادرة من قادة الرأى وشباب مصر يعلم تماما أن هؤلاء الفتية تربوا فى مدرسة الإرهاب لا مدرسة المنطق والسياسة. إنهم يسيئون إلى كل من يخالفهم فى الرأى ويتهمونه بأكبر الاتهامات، بالكفر، لمجرد أنه اختلف معهم أو هاجمهم على مواقفهم المختلفة. إن مصر تمر هذه الأيام بفترة عصيبة من حياتها وهى ترى تلك الجماعة تخرج من الجحور لتخرب فى البلد وتعمل بكل ما فيها من قوة على تدمير سلطة من أهم السلطات فى مصر وهى السلطة القضائية. إننا اليوم فى مصر نحتاج إلى التوحد فى وجه ديكتاتورية تلك الجماعة بقياداتها المختلفة، ولن تخيفنا ابتسامات البرنس على شاشات الفضائيات ومحاولاته الدؤوب للدفاع عن الجماعة بمنطق لا يمكن أن يتقبله طفل ولا يمكن الآن وبعد أن رأينا وجههم الآخر على أرض الواقع أن نثق ببعض قيادتهم التى كنا نثق بها، فعصام العريان الآن وبعد أن أمسكت الجماعة بالحكم ليس هو عصام العريان الثائر المناضل قبل الثورة، ومحمد البلتاجى الذى امتلك الكثير من الاحترام من الثوار ليس هو محمد البلتاجى الآن الذى يفعل كل ما فى وسعه ليقدم للناس تحليلات مزيفة لما يحدث من أخطاء جسيمة لقيادات الجماعة.. تأملوا وجوههم أمام ساحات القضاء وفى ميدان التحرير وقبل ذلك وهم يعتدون على شباب الثورة أمام مجلس الشعب، الوجوه تقول إنها تحمل التعليمات وتنفذها، ودون وعى ولا تفكير.
ولا يمكن لأحد أن ينكر فى الفترة الأخيرة أن صف الثورة قد انكسر بوقوف بعض من الشخصيات الوطنية بجانب الجماعة وحزبها فى خطها السياسى، وأكثر ما أدهشنى فى الأيام السابقة هو حديث الأستاذ ثروت الخرباوى فى جريدة أسبوعية يتحدث فيها عن تلك الرموز التى اختارت أن تقف فى صف الإخوان نكاية فى العسكرى على حد قول الأستاذ ثروت الخرباوى، ولكن ما قدمه الأستاذ ثروت من اتهامات أقل ما يمكن أن يوصف به أنه اتهامات صادمة لتلك الشخصيات، يجعلنى أعيدها عليكم مطالبا تلك الشخصيات بالرد السريع عليها لخطورتها، وأهمها أن الأستاذ ثروت يؤكد أن الإخوان تقوم بعمل عقود وهمية وإعطاء وعود لآخرين حتى يؤيدوهم بحثا عن منصب أو وظيفة، وهنا يتحدث عن الأستاذ الإعلامى الكبير حمدى قنديل الذى يؤكد أنه كان رأيه فى الإخوان قبل انتخابات الرئاسة الأخيرة أنها جماعة فاشية ولا يمكن أن يثق بها أبدا، وإذا به بعد أن أشار إليه أفراد الجماعة بإصبعهم الصغيرة ليذهب إلى تلك الجماعة الفاشية التى لا يثق بها حسبما قال، ثم يأخذهم بالأحضان ويحضر مؤتمر مرسى ويلقى بيانا يمدح مرسى فيه على أنه مخلّص لمصر من الفساد وذلك طمعا فى أن يكون وزيرا للإعلام أو رئيسا لاتحاد الإذاعة والتليفزيون، ويؤكد الخرباوى أن حمدى قنديل سيأخذ من الإخوان شلوتا لأنهم يكرهونه ويعتبرونه من الشخصيات المحرمة بسبب ذهابه فى الماضى إلى السجون كمذيع فى التليفزيون وكان شاهدا على تعذيب الإخوان عندما يخرج يتحدث بأشياء تخالف الحقيقة، ويستطرد الدكتور ثروت الخرباوى قائلا كذلك حسن نافعة ويقصد هنا الدكتور حسن نافعة الأستاذ والناشط السياسى الكبير، ويقول عنه إنه كان باحثا عن عقد عمل مع الدكتور محمد البرادعى وكان دائما باحثا عن عقود عمل فى عهد مبارك، والآن يبحث عن عقد عمل مع الإخوان راغبا فى الحصول على مكان فى الحكم، أما المستشار أحمد مكى أو المستشار محمود الخضيرى فيؤكد الخرباوى بأن مواقفهما الآن التى تساير الإخوان ما هى إلا نتاج أنهما عضوان فى جماعة الإخوان المسلمين وأن مكى هو من أشار على مرسى بعودة مجلس الشعب ومخالفة قرار الدستورية، ويتهم الخرباوى المستشار على البنا الذى يعتبر مستشارا على أموال كان يتقاضاها عبد المنعم نظير قضايا كان يترافع عنها للإخوان المسلمين واتهم أيضا المستشار زكريا عبد العزيز بأنه يطمع فى تعيينه وزيرا للعدل ويؤكد أن الإخوان لا يحبونه مع أنه ينتظر تكليفه منصبا فى عزبة الإخوان، ويكشف الخرباوى سر تحول الدكتور ثروت بدوى الدكتور القانونى الدستورى الشهير بتغيير آرائه فى الإخوان المسلمين بعد أن كان يعارضهم معارضة قوية بأن الرئيس مرسى استدعاه وقال له أنا أحبك وأحترمك وأريدك أن تكون مستشارا لى، ففرح ثروت بدوى بأنه استطاع أن يحصل على عقد عمل وبالتالى تغيرت وتبدلت آراؤه فى الإخوان المسلمين، وأكد الخرباوى أن أكثر من شخصية عامة سوف تكون ضحية من ضحايا الإخوان المسلمين ومنهم الكاتب الكبير علاء الأسوانى الذى يدافع عن الإخوان الآن، لماذا؟ لأن الإخوان ينظرون إليه على أنه علمانى وملحد وكافر وصاحب ثقافة فرنسية ويعتبرونه رجلا يُشِيع الفاحشة والفحشاء والجنس فى المجتمع، وهم يبتسمون فى وجهه الآن لأنهم يريدونه، ويؤكد أن موقف الأسوانى من الإخوان الآن ما هو إلا نكاية فى العسكرى.
هذه الاتهامات لتلك الشخصيات الوطنية المحترمة يجب أن نستمع إلى ردود منهم عليها لخطورتها وخطورة الأيام التى تمر بها مصر.
منقول عن التحرير
مع تحياتى
مدونتى يسرنى ان تزوروها