مغارة
الحليب: أسطورة حليب العذراء
أسامة العيسة
يقطع الراهب
الفرنسيسكاني لورنس، الطريق الملتوية من مغارة الحليب، حيث يمضي يومه، إلى مكان
نومه في دير الفرنسيسكان بجانب كنيسة المهد، عندما يحلّ الظلام على مدينة بيت لحم،
بكثير من الثقة، والأمل بالعودة في الصباح مرة أخرى إلى المغارة، ليستقبل السياح
والحجاج والزوار المحليين والأجانب.
لعل لورنس، في طريقي
الذاهب والعودة، يتذكر أصعب الأيّام التي مرّ بها، خلال حصار كنيسة المهد في نيسان
وأيار 2002م، حين مكث في المغارة نحو 40 يوما محاصرا، بينما كان رفاقه الرهبان
محاصرين في كنيسة المهد، وكان رغم كل شيء أفضل حالا منهم، حيث كان يتزود بالطعام
من دير قريب للراهبات.
ارتبط لورنس، أميركي
الجنسية، بالمغارة، التي ترتبط لدى السكان المحليين والزوار والحجاج الأجانب،
بتقليد يتعلق بالسيدة مريم العذراء، حيث تقول الحكاية، بانه خلال هرب العذراء مع
ابنها السيد المسيح وزوجها يوسف النجّار، من بطش الملك هيرودس، لجأت إلى هذه
المغارة، وسقطت نقطة من حليبها في المكان، فتحولت إلى اللون الأبيض. وهي في الواقع
عبارة عن مغارة كبيرة أو عدة مغر متصلة مع بعضها البعض.
جميع الأمراض..!!
التقاليد المحلية
حول المغارة تشير إلى قدرة التربة التي تؤخذ من المكان على معالجة العقم، وإدرار
الحليب، ولكن الأمور تطورت مع الأيّام، لتصبح بالنسبة للبعض، تشفي من جميع
الأمراض.
ويعمد الزوار على
شراء تربة المغارة الجيرية، التي تتوسع باستمرار نتيجة قرون من النحت، يُحَضّرها
الراهب لورنس، في أكياس صغيرة، يأخذونها معهم إلى بلدانهم.
أحد الحجاج الأجانب،
قال بانه يعتقد بقدرة تراب بيت لحم الجيري الأبيض هذا، على الشفاء من الأمراض
المختلفة، وآخرون كثر غيره وضعوا صورهم وقصصهم داخل المغارة التي تقع في نهاية
الشارع الذي يحمل اسمها، والمحاذي لكنيسة المهد.
يبدو سقف المغارة
أسود بسبب الشموع التي يضيئها المؤمنون، ويزور المغارة بشكل دائم نساء مسلمات
ومسيحيات يأخذن من تراب المغارة ويستخدمنه بعد إذابته في الماء الساخن، للشفاء من
الأمراض، وهو ما يفعله أيضا حجاج يأتون من مختلف أنحاء العالم، وبعد أن يشفون من
أمراضهم، يعود بعضهم إلى المغارة ليسجلوا قصصهم مصورة في ركن في المغارة المتسعة،
وهو ما يعتبر دعاية هامة للمغارة.
أحد الرهبان الشبان،
يعتقد، بان ما يقول عنه الناس بأنه الجير المكون للمغارة، ليس جيرا، ولكنه شيء شبيه
بالحليب. ويعتقد جازما بقدرة تراب المغارة الذي يؤخذ من سقفها على الشفاء من كافة
الأمراض ومن بينها السرطان، ودليله هو القصص التي تحدّث عنها أصحابها بعد شفائهم
من أمراضهم وأرجعوا ذلك للمغارة وترابها المقدس. ومن بين القصص اللافتة، تلك التي
تتعلق بامرأة كانت مصابة بشلل، وشفيت وأصبحت قادرة على السير بفضل ما تناولته من
تراب المغارة المقدسة، كما أظهرت صورها وكلامها المكتوب.
منذ القرن السادس
ولا يقر كثيرون
بالقوة الخارقة للمغارة وحليبها على شفاء شيء، ولكن هذا لا يهم المشرفين عليها، ما
دامت المغارة تكتسب شهرتها في التقليد المسيحي، كواحدة من أهم المزارات الدينية في
الأراضي المقدسة. ويطلق على المغارة أسماء أخرى مثل (مغارة السيدة) و(مغارة ستنا
مريم) ولكن الأشهر هو (مغارة الحليب). وحسب ما هو معروف، فان المغارة أصبحت مقصدا
للحجاج منذ القرن السادس الميلادي، ويحرص كل منهم على أخذ قطعة منها كتذكار من
الأرض المقدسة. وذكر المؤرخ الراحل حنا جقمان: "كانت العادة أن تدق قطعة من
صخر المغارة ثم تُكبس على شكل قطعة صغيرة، وأقدم نموذج معروف من هذا النوع واحدة
في مدينة اوفيدو في أسبانيا منذ القرن السابع، والثانية قدمت هدية إلى شارلمان
الكبير بعد سنة 800م، حُفظت في كنيسة مدينة بيكاردي في فرنسا، واخذ جيرارد الثالث
أسقف بيت لحم قطعة من هذا النوع، بركة إلى معسكر الملك بالدوين الثالث قائد حملة
الصليبيين في أثناء محاصرته مدينة عسقلان في سنة 1123م".
ويضيف جقمان:
"أصبح لصخرة المغارة صفة احترام ديني وساد اعتقاد بأن قليلا من تراب هذه
المغارة إذا رُش على ثدي المرضع زاد إدرارا للحليب، وصار هذا الاستعمال شائعا طوال
قرون طويلة حتى مطلع القرن العشرين، فتذهب النساء المسيحيات والمسلمات على السواء
إلى هذه المغارة للتبرك وترش كل امرأة قليلا من حبات تراب المغارة على ثديها،
فيزداد حليبهن".
ونُقل هذا التقليد
إلى أوروبا عام 1250م، وأدى الحفر في المغارة لأخذ ترابها أو قطعة منها، طوال
سنوات، إلى اتساعها الذي يظهر الان. وفي العهد الصليبي بُنيت كنيسة في المكان،
ولكنها دُمرت لاحقا
توجد في مدخل
المغارة لوحة كُتب عليها: "بارك يا رب من تعبوا في بناء هذه الكنيسة، وأعط
الراحة الأبدية لنفوسهم" ويشير تاريخها إلى عام 1838م. ومكنت تبرعات من
السكان المحليين إلى إحداث تغييرات على المغارة، مثل بناء أقواس وزخارف في مدخلها،
وتزيين الدرج المؤدي إليها. ويمكن أن يكون أهم شيء عمل بهذا الخصوص، هو ما أنجزه
فنانون محليون في القرن التاسع عشر من نقش صور لحكاية العذراء وطفلها على الحجارة،
ومثبتة على مدخل المغارة، وتلفت هذه النقوش خصوصا الزائرين الأجانب، وأصبح بعضها
في ذهن المتابعين مرتبطا باسم المغارة.
سائر بلاد الشام
وأوروبا
ولعقود طويلة كانت
الباحة أمام المغارة، المكان المفضل لسكان بيت لحم المسلمين والمسيحيين، لإقامة
صلوات الاستسقاء، ويعتقد هؤلاء بثقة كبيرة بان الأمطار كانت تهطل بغزارة بعد كل
صلاة من هذا النوع. وتقام في المغارة بشكل منتظم قداديس خاصة بأعياد السيدة
العذراء، خاصة في 15 آب من كل عام الذي يصادف عيد انتقال العذراء إلى السماء. وفي
عصر كل يوم من شهر أيار تقام صلوات خاصة مكرسة لمريم العذراء. وما لا يعرفه كثيرون
من السكان المحليين والحجاج الأجانب عن مغارتهم الأثيرة، أن لها تاريخ أقدم من قصة
المسيح، عليه السلام، فكانت حفريات أجريت في مطلع القرن العشرين كشفت على ان
المكان كان مسكونا منذ العصر الحديدي، وكشفت الحفريات أيضا عن قبور تعود للعهدين
البيزنطي والصليبي وأرضيات فسيفسائية.
كتب الكثير من
الرحالة عن مغارة الحليب. مثلا في شهر تموز 1885 زارت ماري اليزا روجرز بيت لحم
وتحدثت عن معجزات مغارة الحليب، وروت بأنها رأت امرأة تُعلق صُرّة صغيرة في رقبتها
تحتوي على فتات الحجر الابيض المأخوذ من مغارة الحليب، وعلمت بان: "الامهات
يتلهفن للحصول على فتات حجارة هذه المغارة وتعليقها على صدورهن جلبا للبركة".
وذكرت بنوع من
التفسير النفسي: "خضعت هذه المغارة، التي هي عبارة عن كهف ذي جدران من الحجر
الجيري الأبيض، لحفريات استكشافية على مر القرون، بسبب البركة المفترضة لحجارتها.
تحظى هذه الحجارة وفتاتها بالتبجيل والاحترام في سائر أنحاء بلاد الشام، وفي
العديد من البلدان في أوروبا. وكثيرا ما رأيت استخدامات ناجحة لها. يبدو لي بان
عدم احتفاظ السيدات المتوترات، واللاتي يعانين من القلق، بقطعة من هذه
الذخائر، يؤدي إلى نقص ادرار الحليب لديهن، وفي حالات كهذه لا تجدي الاستعانة
بالأعشاب الطبية والادوية ولا حتى القابلات والأطباء نفعا، لكن السكينة وراحة البال
تعودان فور تدبير فتات هذه الحجارة، خصوصا إذا ما تم ذلك على يدي احد الكهنة،
وتأتي النتائج سارة بعد ذلك على الفور. من الممكن تفسير العديد من الخوارق
المزعومة بهذه الطريقة".
مرسلة بواسطة أسامة
العيسة في 6:02 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق